وردت في سورة البقرة الآيات 47-48 ثم وردت مره أخرى في الآيات 122-123 ونجد الاختلاف في كلمتي الشفاعة والعدل رغم أن الآيتين تتحدثان عن بني إسرائيل.
الحمد لله
الجواب على هذا السؤال يتضمن عدة أمور :
الأول : تفسير قوله تعالى : { وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } البقرة / 48 ، والآية الأخرى الشبيهة بها هي قوله تعالى : { وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } البقرة / 123 .
قال ابن كثير رحمه الله ( 1 / 256 ) :
لما ذكَّرهم تعالى بنعمه أولاً - يعني : قوله تعالى : { يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } البقرة / 40 - عطَف على ذلك التحذير من حلول نقمه يوم القيامة فقال : { واتقوا يوماً } " يعني : واحذروا يوم القيامة ، { لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ شيئاً } أي : لا يغني أحد عن أحد كما قال { ولا تزر وازرة وزر أخرى } وقال : { لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه } وقال : { يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا } فهذا أبلغ المقامات أن كلاًّ من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئاً .
وقوله تعالى : { ولا يقبل منها شفاعة } يعني : من الكافرين كما قال { فما تنفعهم شفاعة الشافعين } .
وقوله تعالى : { ولا يؤخذ منها عدل } أي : لا يقبل منها فداء كما قال تعالى : { إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به } ، وقال : { إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تُقبل منهم ولهم عذاب أليم } ، وقال : { فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم } الآية ، فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ولا شفاعة ذي جاه ولا يقبل منهم فداء ولو بملء الأرض ذهباً .
وقوله تعالى { ولا هم ينصرون } أي : ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله كما تقدم أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ولا ينقذ أحدا من عذابه منقذ ولا يخلص منه أحد ولا يجير منه أحد كما قال تعالى { وهو يجير ولا يجار عليه } وقال { فيومئذٍ لا يُعذِّب عذابه أحدٌ ولا يوثِق وثاقه أحد } .
قال ابن جرير الطبري :
وتأويل قوله { ولا هم ينصرون } يعني : أنهم يومئذٍ لا ينصرهم ناصرٌ كما لا يشفع لهم شافعٌ ولا يقبل منهم عدل ولا فدية ، بطلت هنالك المحاباة واضمحلت الرشى والشفاعات وارتفع من القوم التناصر والتعاون وصار الحكم إلى الجبار العدل الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها وذلك نظير قوله تعالى { وقفوهم إنهم مسئولون . ما لكم لا تناصرون . بل هم اليوم مستسلمون } أ.هـ .
وبهذا يعلم أن الشفاعة المنفية هنا هي شفاعة الكافرين أو الشفاعة في الكافرين .
الثاني : أن التكرار في القرآن الكريم يحصل كثيراً وذلك لحكمٍ كثيرةٍ عظيمةٍ قد نعرف بعضها ، ويخفى علينا كثيرٌ منها : -
1- أن كل جملةٍ مكررةٍ يختلف مدلولها ومعناها عن الجملة الأخرى لأنها تتعلق بما ذكر قبلها من كلام الله تعالى ، وبهذا لا يعد ذلك من التكرار في شيءٍ .
فمثلا : قوله تعالى في سورة المرسلات : { ويل يومئذ للمكذبين } تكررت عشر مرات ، وذلك أن الله تعالى أورد قصصاً مختلفة ، وأتبع كل قصة بهذا القول فكأنه عقب على كل قصة : " ويل يومئذ للمكذب بهذه القصة " ، وكل قصة مغايرة للقصة الأخرى فأثبت الوعيد لمن كذب بها .
2- كما أن الله تعالى لا يخالف بين الألفاظ إلا لاختلاف المعاني ، وأن هذا لا يكون إلا لحكمة يعلمها سبحانه ، وقد يطلع عليها بعض خلقه بما يفتح عليهم من الفهم في كتابه ، وقد يحجبها عنهم ، وهو الحكيم العليم .
3- أن تكرار الكلام يضفي على المعنى الذي تضمنه أهمية ومكانة توجب له عناية خاصة ، ومنها تأكيد المعنى وبقدر ما يحصل التأكيد بقدر ما يدل على الاهتمام بالأمر والعناية به .
( للاستزادة يراجع قواعد التفسير 2 / 702 ) .
الثالث : هل تقديم شيء وتأخيره في القرآن له حِكَم معروفة أو قاعدة مطردة ؟
فيقال ـ والعلم عند الله تعالى ـ : إن التقديم والتأخير في القرآن ، بل وفي لغة العرب لا يجري على قاعدة مطردة ، فتارة يكون المقدم هو المتقدم في الوقوع ، وتارة يكون المقدم هو الأشرف ، وتارة يصعب التعليل ، وعليه : فينبغي الحذر عند الكلام في هذا الباب ، فيبين ما ظهر له وجه تعليله من غير تكلف ، وما لم يظهر وجهه يوكل علمه إلى عالمه ، والتقول على الله بلا علم من أعظم المحرمات كما لا يخفى ، فلا يجوز أن يُحَمّل كلام الله ما لا يحتمل .
على أنه يقال : إن العرب إذا ذكرت أشياء مشتركة في الحكم وعطفت بعضها على بعض بالواو المقتضية عدم الترتيب فإنهم لا يقدمون في الغالب إلا ما يعتنون به سواء كان بسب التشريف أو التعظيم ، أو لأهميته أو قصد الحث عليه ، أو نحو ذلك .
" قواعد التفسير " د . خالد السبت ( 1 / 380 ) .
الرابع : في الحكمة من تكرار هذه الآية ، والحكمة من التقديم والتأخير فيها على وجه الخصوص :
إن التكرار هنا لتذكير بني إسرائيل ، وإعادةً لتحذيرهم للمبالغة في النصح .
وأيضاً : في الموضع الأول ذكَّرهم بالقيام بحقوق نعمه السابقة عليهم وهي التي ذكره قبل الآيات وبعدها ، وفي الموضع الثاني ذكَّرهم بنعمة تفضيلهم على العالَمين لإيمانهم بنبي زمانهم ، ليحصلوا هذه الفضيلة بإيمانهم بنبي الإسلام الخاتم محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلم فيكونوا من الفاضلين ، ويتقوا بإيمانهم به من أهوال القيامة وخوفها ؛ كما اتقى من تابع موسى عليه السلام وآمن به من تلك الأهوال " .
" روح المعاني " للآلوسي ( 1 / 373 ) .
وأما سبب تقديم العدل على الشفاعة في الموضع الثاني وتأخيره عنها في الموضع الأول : فقد التمس بعض العلماء الحكمة فذكروا حكمتين :
1- أنه من باب التفنن في الكلام لتنتفي به سآمة الإعادة مع حصول المقصود من التكرير .
2- ومع هذا التفنن فهناك فائدة لطيفة وهي : " أنه في الآية الأولى نفى قبول الشفاعة ، وفي الآية الثانية نفى قبول الفداء حتى يتم نفي القبول في كل منهما ، ثم لما كان نفي قبول الشفعة لا يقتضي نفي أخذ الفداء ذكره في الآية الأولى بعد الشفاعة حتى لا يتوهم متوهم أنه إذا لم تقبل الشفاعة فقد يؤخذ الفداء ، ولما نفى في الآية الثانية قبول الفداء ، وكان هذا النفي لا يتضمن نفي انتفاع الكافرين بالشفاعة أعقبه بنفي نفع الشفاعة حتى لا يتوهم متوهم أنه إذا لم يقبل الفداء قد تنفع الشفاعة ، فتحصَّل من الآيتين نفي القبول عن الشفاعة وعن الفداء لأن أحوال الناس في طلب الفكاك والنجاة مما يخافونه تختلف ، فمرة يقدمون الفداء فإذا لم يقبل قدموا الشفاعة ، ومرة يبدؤون بالشفاعة فإذا لم تقبل عرضوا الفداء ." أ.هـ .
بتصرف يسير من " التحرير والتنوير " لابن عاشور ( 1 / 698 ) .
وبعد :
فهذه اللطائف التي ذكرت هي مجرد استنتاج واستنباط ناتج عن اجتهاد بعض العلماء في هذه الآيات فقد يكون ما ذكروه من الحِكم ، وقد لا يكون ، وما جاء في السياق القرآني فهو الأفصح والأليق ، سواءً صحَّ هذا الاستنباط أو لم يصح ، والمقصود الأعظم هو أخذ العبرة والعظة من هذه الآية : وهي أن الإنسان في يوم القيامة لن ينفعه أحدٌ قريباً كان أو بعيداً ، وسينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قّدَّم ، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قّدَّم ، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار ، فعليه أن يتقي النار بالعمل الصالح ولو كان ذلك العمل صدقة بشقِّ تمرة ؛ كما ورد معنى هذا في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه كما رواه البخاري برقم ( 6058 ) ومسلم ( 1688 ) .
وأن الشفاعة لا تنفع أحداً من الخلق إلا بإذن الله ، ولن يأذن الله لأحد من الكافرين أن يَشفع أو يُشفع له في الخروج من النار .
فليتعلق العبد بربه دون سواه وليطلب منه أن يرزقه شفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم .
والله أعلم .