السؤال: سؤالي هو : هل تطيع الملائكة الله من تلقاء إرادتهم الحرة ؟ فقد أخبرني أحد الإخوة بأن للملائكة إرادة ، واختياراً حرة لكي تطيع ، أو تعصي أوامر الله ، لكنهم اختاروا الطاعة دائماً ، والأدلة التي قدمها ليوضح أن لديهم إرادة حرة كانت الآية رقم 30 من سورة البقرة فقد قال : إن الملائكة تحدثت من تلقاء نفسها دون أن تتلقى أمراً من الله بالحديث ، كما كان الحديث الذي يقول بقيام جبريل بتلقيم فم فرعون دليلاً آخر قدمه لي ، فقد قال : إن جبريل قام بذلك لأنه خشي أن تلحق رحمة الله فرعون , وأنه لم يكن مأموراً من الله بذلك , وقدم دليلاً منطقيّاً آخر بأنه إذا كانت الملائكة كالدمى ، أو الإنسان الآلي : فإنها لم تكن في هذا الحال جديرة بالثناء , وأنا أطرح هذا السؤال لأن الشيخ " عمر سليمان الأشقر " كتب في كتابه عن الملائكة بأنهم ليس لديهم القدرة على عصيان الله ، كما تكرر هذا القول في كتاب الإمام السيوطي " الحبائك في أخبار الملائك " حيث يقول : بأن الملائكة معصومون كما تم رواية الرأي القائل بأن الملائكة ليس لديها إرادة حرة عن الصحابي عبد الله بن سلام ( الحاكم فى " مستدرك الصحيحين " ، ووافقه الذهبي ) . رجاء هل بوسعكم توضيح أي الرأيين هو الرأي الصحيح وفقاً للقرآن والسنَّة ؟ .
الجواب :
الحمد لله
أولاً:
من أركان الإيمان بالله تعالى : الإيمان بالملائكة المقرَّبين .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ : مَا الْإِيمَانُ ؟ قَالَ : الْإِيمَانُ : أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَبِلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ ، قَالَ : مَا الْإِسْلَامُ ؟ قَالَ : الْإِسْلَامُ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ وَتَصُومَ رَمَضَانَ ، قَالَ : مَا الْإِحْسَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ ) رواه البخاري ( 50 ) ومسلم ( 9 ) .
ثانياً:
الملائكة خلق من خلق الله , وعباد من عباده ، مفطورون على العبادة ، ومجبولون عليها , والأدلة على ذلك كثيرة من الكتاب والسنة , منها : قوله تعالى : ( لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) التحريم/ 6 ، وقال تعالى : ( يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) النحل/ 50 .
قال القرطبي – بعد أن ذكر قصة هاروت وماروت ما روي عن قصتهما من روايات أهل الكتاب , وأنه وقع منهم المعصية بعد أن ركَّب الله فيهما الشهوة – :
هذا كله ضعيف ، وبعيد عن ابن عمر وغيره ، لا يصح منه شيء ؛ فإنه قول تدفعه الأصول ، في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه ، وسفراؤه إلى رسله ، ( لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) التحريم/ 6 ، ( بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ . لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء/ 26 ، 27 ، ( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ) الأنبياء/ 20 .
وأما العقل : فلا يُنكِر وقوع المعصية من الملائكة , ويوجد منهم خلاف ما كلفوه ، ويخلق فيهم الشهوات ، إذ في قدرة الله تعالى كل موهوم ، ومن هذا : خوف الأنبياء ، والأولياء الفضلاء العلماء ، ولكن وقوع هذا الجائز لا يُدرك إلا بالسمع ، ولم يصح .
" تفسير القرطبي " ( 2 / 52 ) .
أي : لم يصح وقوع المعصية منهم .
وقال ابن القيم - رحمه الله - :
ولفظ الملَك يشعر بأنه رسول منفِّذ لأمر غيره ، فليس لهم من الأمر شيء ، بل الأمر له لله الواحد القهار , وهم ينفذون أمره ( لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ . يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) الأنبياء/ 27 ، 28 ، ( يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) النحل/ 50 ، ( لاَ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُم وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) التحريم/ 6 ، ولا تتنزل إلا بأمره ، ولا تفعل شيئا إلا من بعد إذنه ، فهم عباد له مكرمون ، منهم الصافُّون , ومنهم المسبحون ، ليس منهم إلا من له مقام معلوم لا يتخطاه , وهو على عمل قد أُمر به لا يقصر عنه ولا يتعداه ، وأعلاهم : الذين عنده سبحانه ، لا يستكبرون عن عبادته ، ولا يستحسرون ، يسبحون الليل والنهار لا يفترون .
" إغاثة اللهفان " ( 2 / 127 ) .
ومما يؤكد هذا المعنى : أن الله تعالى رفع منهم الشهوة , التي هي داعية الذنب ، والمعصية ، والهوى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :
كما قال أبو بكر عبد العزيز - من أصحابنا - وغيره : خُلقَ للملائكة عقولٌ بلا شهوة , وخُلق للبهائم شهوة بلا عقل , وخُلق للإنسان عقل وشهوة ، فمَن غلب عقلُه شهوتَه : فهو خير من الملائكة , ومَن غلبت شهوتُه عقلَه : فالبهائم خير منه .
" مجموع الفتاوى " ( 15 / 428 ، 429 ) .
وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – رحمه الله - :
وحجة من قال : إن أصله - أي : إبليس - ليس من الملائكة : أمران : أحدهما : عصمة الملائكة من ارتكاب الكفر الذي ارتكبه إبليس ، كما قال تعالى عنهم : ( لاَّ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) التحريم/ 6 ، وقال تعالى : ( لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) الأنبياء/ 27 .
" أضواء البيان " ( 3 / 356 ) ، وينظر : " مجموع فتاوى الشيخ العثيمين " ( 1 / 233 ) .
ثالثاً:
ليس معنى عصمة الملائكة عن المعصية أنهم لا اختيار لهم ، أو أنهم يحركون نحو الطاعة بلا قدرة منهم ولا اختيار ، وإنما هم في ذلك كالدمى ، أو الإنسان الآلي ، على نحو ما ورد في السؤال ؛ فحاشا ملائكة الله المكرمين عن ذلك المقام ؛ بل إنما ذكر الله تعالى عصمتهم عن المعصية في مقام مدحهم والثناء عليهم ، ومعلوم أن من لا قدرة له على الطاعة ، ولا اختيار له : لا يمدح بذلك ، وإنما يمدح من يقدر على الأمرين ؛ فأنبياء الله ورسله من البشر معصومون من الكفر والكذب والفواحش ـ مثلا ـ بالإجماع ، ولا يعني ذلك أنهم لا قدرة لهم على الإيمان والكفر ، أو أنهم لم يفعلوا ما فعلوه من الإيمان والطاعات اختيارا ، ولا أنهم تركوا ما تركوه من الكفر والفواحش اختيارا ؛ بل هم مختارون لذلك ، ومعصومون من ضده ، لكمال توفيق الله له م في عامة الأحوال . فهكذا الملائكة المكرمون : وفقهم الله تعالى للطاعة في جميع أحوالهم وأوقاتهم ، وعصمهم من المعصية ، لكن ذلك لا يعني أنهم غير مختارين لذلك ولا ممدوحين به ، كما أن الشياطين مخذولون في عامة أحوالهم ، فلا يختارون الإيمان ولا الطاعات ، مع أن لهم القدرة عليها ، وهم مذمومون بما هم فيه من الكفر والعصيان ، معاقبون على اختياره وفعله .
قال الإمام ابن حزم رحمه الله :
" وقال بعض السخفاء : إن الملائكة بمنزلة الهواء والرياح . [ يعني : أنهم لا اختيار لهم ] .
قال أبو محمد [ هو ابن حزم ] :
وهذا كذب وقحة وجنون ، لأن الملائكة بنص القرآن والسنن وإجماع جميع من يقر بالملائكة من أهل الأديان المختلفة : عقلاء متعبدون ، منهيون مأمورون ، وليس كذلك الهواء والرياح لكونها لا تعقل ولا هي مكلفة متعبدة ، بل هي مسخرة مصرفة لا اختيار لها ... " انتهى .
"الفصل في الملل والأهواء والنحل" ، بن حزم (5/17) .
قال الشيخ عمر الأشقر – حفظه الله - :
ويمكن أن نقول : إن الملائكة ليسوا بمكلفين بالتكاليف نفسها التي كلف بها أبناء آدم ، أما القول بعدم تكليفهم مطلقاً : فهو قول مردود ، فهم مأمورون بالعبادة ، والطاعة : ( يَخَافُونّ رَبَّهُم مِنْ فَوْقِهِم وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) النحل/ 50 ، وفي الآية أنهم يخافون ربهم ، والخوف نوع من التكاليف الشرعية ، بل هو من أعلى أنواع العبودية ، كما قال فيهم : ( وَهُمْ مِن خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ) الأنبياء/ 28 .
" عالم الملائكة الأبرار " ( ص 21 ) .
ولا شك أن التكليف إنما هو فرع على العقل والعلم والقدرة والاختيار ، فثبت بهذا الإجماع الذي نقله الإمام ابن حزم رحمه الله أنهم مختارون لما هم فيه من الطاعة ، مأمورون منهيون ، لهم القدرة على ذلك ، وتوالى توفيق الله لهم ، فلا يختارون ما فيه معصية لربهم .
وما يدل على ذلك ، مع ما سبق ذكره وتقريره من الأدلة :
1. قوله تعالى ( لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) التحريم/ من الآية 6 .
ولا يسمَّى العاصي عاصياً إلا حيث يتعمد فعل المعصية ، وكذا ترك الأمر ، ولو كان الملائكة عاجزين بطبعهم عن ذلك لما أثنى الله عليهم بفعل الأوامر ، ولما سمَّى ما عجزوا عنه معصية .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
العاصي هو الممتنع من طاعة الأمر مع قدرته على الامتثال ، فلو لم يفعل ما أمر به لِعجزه : لم يكن عاصياً ، فإذا قال : ( لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ ) : لم يكن في هذا بيان أنهم يفعلون ما يؤمرون ؛ فإن العاجز ليس بِعاصٍ ، ولا فاعل لما أمر به ، وقال : ( وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ليبين أنهم قادرون على فعل ما أمروا به ، فهم لا يتركونه ، لا عجزاً ، ولا معصية ، والمأمور إنما يترك ما أمر به لأحد هذين ، إما ألا يكون قادراً ، وإما أن يكون عاصياً لا يريد الطاعة ، فإذا كان مطيعاً يريد طاعة الآمر وهو قادر : وجب وجود فعل ما أمر به ، فكذلك الملائكة المذكورون ، لا يعصون اللّه ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون .
" مجموع الفتاوى " ( 13 / 61 ) .
2. حديث ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَتَانِي رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ – أي : في المنام - فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، قُلْتُ : لَبَّيْكَ رَبِّ وَسَعْدَيْكَ ، قَالَ : فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ؟ قُلْتُ : رَبِّ لَا أَدْرِي ) الْحَدِيثَ ، ويؤيده قوله تعالى ( مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ ) ص/ 69 ، فقد أثبت الله تعالى ها هنا اختصام الملائكة ، وهو ما يحدث من جدال بينهم في بعض المسائل التي ذُكرت في الحديث وهي : الدرجات ، والكفارات .
3. حديث الذي قتل مئة نفس ، ثم تاب ، ولما مات اختصمت فيه ملائكة الرحمة ، وملائكة العذاب ، حتى بعث الله تعالى ملَكاً يحكم بينهم ، وهو في الصحيحين .
فادِّعاء أنهم كالدمى ، أو كالإنسان الآلي : قول عارٍ عن الصحة ، وبعيد عن الحقيقة ، وأجنبي عن التحقيق العلمي ، وما أحراه بما وصفه به الإمام ابن حزم رحمه الله : أنه كذبة سخيفة ، كما سبق نقله عنه .
بل هم عبادٌ مُكرمون ، لهم إرادة ، ولهم طاعات متفاوتة ، ولهم عبادات متنوعة ، وإن كانوا لا يعصون الله البتة .
رابعاً:
وأما حديث عبد الله بن سلام الذي أشار إليه السائل ، فنصه :
عَنْ بِشْر بنِ شَغَافٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ ، قَالَ : وَكُنَّا جُلُوسًا فِي الْمَسْجِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ، فَقَالَ : إِنَّ أَعْظَمَ أَيَّامِ الدُّنْيَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ ، وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ ، وَإِنَّ أَكْرَمَ خَلِيقَةِ اللَّهِ عَلَى اللَّهِ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : قُلْتُ : يَرْحَمُكَ اللَّهُ ، فَأَيْنَ الْمَلائِكَةُ ؟ قَالَ : فَنَظَرَ إِلَيَّ وَضَحِكَ ، وَقَالَ : يَا ابْنَ أَخِي ، هَلْ تَدْرِي مَا الْمَلائِكَةُ ؟ إِنَّمَا الْمَلائِكَةُ خَلْقٌ كَخَلْقِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ، وَالرِّيَاحِ ، وَالسَّحَابِ ، وَسَائِرِ الْخَلْقِ الَّذِي لاَ يَعْصِي اللَّهَ شَيْئًا .
رواه الحاكم في " المستدرك " ( 4 / 612 ) ، والبيهقي في " دلائل النبوة " ( 5 / 485 ) ، و"شعب الإيمان" (1/309ـ رقم 148) .
وهذا الحديث موقوف على عبد الله بن سلام ، كما هو ظاهر ، وليس مرفوعاً للنبي صلى الله عليه وسلم ، وليس فيه ما يؤيد قول المخالف على القطع ، بل على الاحتمال ، والاحتمال الآخر أنه يريد بأن الملائكة عليهم السلام لا يصدر منهم معصية ، بل هم ينفذون أمر الله إليهم ، كما تنفذه السماء ، والأرض ، وهذا موافق لما ذكرناه سابقاً ، وليس معناه أنه لا إرادة لهم . وما سبق ذكره من الأدلة من الكتاب والسنة ، وأشباه ذلك ، قاطع في بيان أن لهم إرادة واختيارا ، وهو ما حكى ابن حزم الإجماع عليه .
والله أعلم .