السؤال:
لماذا مُيز إبراهيم عليه السلام عن غيره من الأنبياء بخلة الرحمن ؟ وهل في
قصة ذبح إسماعيل عليه السلام علاقة بهذا ؟
الجواب :
الحمد لله
أولاً :
لم
يختص إبراهيم عليه السلام بخُلَّة الرحمن سبحانه وتعالى ، بل شاركه فيها
نبينا محمد
صلى الله عليه وسلم .
فعن
جُنْدَب بنِ عَبْدِ الله البَجَلي رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ
النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ وَهُوَ يَقُولُ :
(إِنِّي
أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ ؛ فَإِنَّ
اللَّهَ
تَعَالَى قَدْ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا ، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ
خَلِيلًا ،
وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا
بَكْرٍ
خَلِيلًا) رواه مسلم (532) .
قال
ابن القيم رحمه الله :
مرتبة الخلة التي انفرد بها الخليلان : إبراهيم ، ومحمد ، صلى الله عليهما
وسلم ،
كما صح عنه أنه قال : (إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلاً) ،
وقال : (لو
كنت متخذاً من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن صاحبكم خليل
الرحمن) ،
والحديثان في الصحيح ، وهما يبطلان قول من قال : "الخلة لإبراهيم ، والمحبة
لمحمد ،
فإبراهيم خليله ومحمد حبيبه" .
"مدارج السالكين" (3/30) .
وقد
استحق كلا النبيين عليهما الصلاة والسلام هذه المنزلة لما لهما من الصفات ،
والأفعال العظيمة الجميلة .
وبخصوص النبي إبراهيم عليه السلام : فإن الله تعالى قد أثنى عليه في القرآن
ثناء
عظيماً ، وذكر له من الصفات والأفعال ما استحق بها أن يكون خليلاً لربه
تعالى ،
وأعظم تلك الصفات والأفعال : تحقيقه للتوحيد ، وبراءته من الشرك والمشركين ،
حتى
نسب الدين والملَّة إليه عليه السلام ، ولذا فلا عجب إِنْ عَلِمْنَا أن
الله تعالى
أمر نبيَّه محمَّداً صلى الله عليه وسلم أن يتبع هذه الملَّة في قوله تعالى
:
(ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا
وَمَا
كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) النحل/ 123 ، وأمر سبحانه عبادَه جميعهم بذلك
الاتباع
لتلك الملَّة إتباعه في قوله: (قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ) آل عمران/ 95 .
ومن
عظيم صفات وأفعال إبراهيم عليه السلام :
1
–قال الله تعالى : (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ
حَنِيفاً
وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ
وَهَدَاهُ
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً
وَإِنَّهُ فِي
الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ) النحل/ 120، 122 .
والأمّة هو الإمام الجامع لخصال الخير الذي يُقتدى به .
والقانت هو الخاشع المطيع لربه دائماً .
والحنيف هو المنحرف قصداً عن الشرك إلى التوحيد ، ولهذا قال : (وَلَمْ
يَكُنْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ) و (شَاكِراً لأَنْعُمِهِ) أي : قائماً بشكر نعمة ربه عليه .
فكان نتيجة هذه الخصال الفاضلة أن (اجْتَبَاهُ) ربه واختصه بخلته وجعله من
صفوة
خلقه ، وخيار عباده المقربين .
انظر : تفسير ابن كثير ، وتفسير السعدي .
2 –
قال الله تعالى : (وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى) النجم/37 .
أي
: قام بجميع ما أمره الله به .
3-
قال الله تعالى : (إنَّ إبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) هود/ 75 .
و(حَلِيمٌ) "أي : ذو رحمةٍ ، وصفحٍ عما يصدر منهم إليه من الزلات ، لا
يستفزه جهل
الجاهلية ، ولا يقابل الجاني عليه بجرمه" .
تفسير السعدي .
و(أَوَّاهٌ) أي : كثير التضرع والذكر والدعاء والاستغفار .
و(مُّنِيبٌ) "أي : راجع إلى الله بمعرفته ومحبته والإقبال عليه والإعراض
عما سواه"
.
تفسير السعدي .
4-
كرمه وسخاؤه ، قال الله تعالى : (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ
المُكْرَمِينَ . إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًاً قَالَ سَلامٌ
قَوْمٌ
مُّنكَرُونَ . فَرَاغَ إلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ .
فَقَرَّبَهُ
إلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ) الذاريات/ 24 – 27 .
5-
عظم صبره ، قال الله تعالى : (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ
مِنَ
الرُّسُلِ) الأحقاف/ 35 ، وإبراهيم عليه السلام من أولي العزم من الرسل ،
فهم
المذكورون في قوله تعالى : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ
نُوحاً
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى
وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) الشورى/13 .
6-
البراءة من الشرك والمشركين ، وإعلانه ذلك ، قال الله تعالى : (قَدْ
كَانَتْ لَكُمْ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا
لِقَوْمِهِمْ
إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وممَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا
بِكُمْ
وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ والْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى
تُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ وحْدَهُ ...) الممتحنة/ 4 .
7-
قيامه بجميع ما أمره الله به على أتم وجه ، قال الله تعالى : (وَإِذِ
ابْتَلَى
إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ
لِلنَّاسِ
إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ)
البقرة/124 .
وغير ذلك من الصفات والأفعال ، التي بمجموعها استحق عليه السلام أن يكون
خليلاً لله
تعالى.
قال
ابن كثير رحمه الله :
وإنما سمي خليل الله : لشدة محبة ربه عَزَّ وجَلَّ له ؛ لما قام له من
الطاعة التي
يحبها ويرضاها.
"تفسير ابن كثير" (2/423) .
ثانياً :
أما
علاقة الأمر بذبح ابنه إسماعيل عليه السلام بالخلة : فالذي يظهر أن لذلك
أعظم الصلة
، وأقوى الارتباط ، وقد بيَّن ابن القيم رحمه الله ذلك ، فقال :
"والخُلة هي : المحبة التي تخللت روح المحب ، وقلبه ، حتى لم يبق فيه موضع
لغير
المحبوب كما قيل :
قد
تخللتِ مسلك الروح منِّي ... ولذا سمي الخليل خليلاً
وهذا هو السر الذي لأجله - والله أعلم - أُمر الخليل بذبح ولده ، وثمرة
فؤاده ،
وفلذة كبده ؛ لأنه لما سأل الولدَ فأعطيه : تعلقت به شعبة من قلبه ، والخلة
منصب لا
يقبل الشِّركة ، والقسمة ، فغار الخليلُ على خليله أن يكون في قلبه موضع
لغيره ،
فأمره بذبح الولد ؛ ليُخرج المزاحم من قلبه ، فلما وطن نفسه على ذلك ، وعزم
عليه
عزماً جازماً : حصل مقصود الأمر ، فلم يبق في إزهاق نفس الولد مصلحة ، فحال
بينه
وبينه ، وفداه بالذبح العظيم ، وقيل له : (يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ
صَدَّقْتَ
الرُّؤْيَا) ، أي : عملت عمل المصدق .
(إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) نجزي من بادر إلى طاعتنا ، فنقر
عينه ،
كما أقررنا عينك بامتثال أوامرنا ، وإبقاء الولد ، وسلامته .
(إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) وهو اختبار المحبوب لمحبه ،
وامتحانه
إياه ليؤثر مرضاته ، فيتم عليه نعمَه ، فهو بلاء ، محنة ومنحة عليه معاً"
انتهى .
"مدارج السالكين" (3/30 ، 31) .
والله أعلم