هل يقال للنبي صلى الله عليه وسلم إنه " بدوي " ؟
الحمد لله
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكرم الخلق ، وسيد البشر ، وأحب خلق الله
إلى الله ،
له المقام المحمود ، والحوض المورود ، اصطفاه الله من بين ولد آدم كلهم ،
واختاره
من خير العرب أعراقا وأنسابا وأحسابا ، مولدُه في أعظم حاضرةٍ من حواضر
العرب يومها
، في مكة المكرمة ، خير بقاع الأرض ، وأحب أرض الله إلى الله ، سماها
القرآن الكريم
" أم القرى " لعظيم مكانتها في جزيرة العرب ، بل في الأرض كلها ، "
قال الله عز وجل : ( وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ
الَّذِي
بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا )
الأنعام/92
وقد أورثت هذه المكانة الجليلة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في نفوس
أصحابه من
الإكبار والإجلال والتقدير ما يبلغ الغاية والكمال ، فهذا أبو بكر الصديق
رضي الله
عنه يرجع عن موقف الإمامة في الصلاة ليتقدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم ،
ويقول : (
مَا كَانَ لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ
اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )
البخاري (684) ومسلم (421) .
ويرفض أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن يعلو سقيفة تحتها رسول الله صلى
الله عليه
وسلم . رواه مسلم (2053)
.
وكان عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول : ( وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ
أَمْلَأَ
عَيْنَيَّ مِنْهُ إِجْلَالًا لَهُ ، وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا
أَطَقْتُ ،
لِأَنِّي لَمْ أَكُنْ أَمْلَأُ عَيْنَيَّ مِنْهُ )
رواه مسلم (121)
.
ولمَّا قام البراء بن عازب يَعُدُّ كما عد النبي صلى الله عليه وسلم ما لا
يجوز في
الأضاحي قال : ( وَأَصَابِعِي أَقْصَرُ مِنْ أَصَابِعِهِ ، وَأَنَامِلِي
أَقْصَرُ
مِنْ أَنَامِلِهِ صلى الله عليه وسلم ) رواه
أبو داود (2802) وصححه ابن دقيق العيد في "الاقتراح" (ص/121) والشيخ
الألباني في
"صحيح أبي داود" .
إلى غير ذلك من صُورِ الأدب العظيمة التي ضربها الصحابة رضوان الله عليهم
للبشرية
كلها في تكريمِ وإجلالِ أفضلِ الرسل وسيد البشر صلوات الله وسلامه عليه .
أما وَصفُهُ صلى الله عليه وسلم بما لا يليق به ، أو لَمْزُهُ بسيء الألفاظ
والمعاني ، أو حكايةُ ما فيه تنقيصٌ لقدره فهو من الكذب الفج القبيح ،
والكفر
الصريح ، لِما فيه من تزويرٍ للحقائق وتَعَدٍّ على خير الخلائق ، ولا يقع
في ذلك
إلا مَن لا يَعرف الأدبَ ولا الخلقَ ولا الإيمان .
قال الله عز وجل : ( وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا
نَخُوضُ
وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ
تَسْتَهْزِئُونَ لاَ
تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن
طَآئِفَةٍ
مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ )
التوبة/65-66.
قال القاضي عياض رحمه الله في "الشفا" (2/214) :
" اعلم - وفقنا الله وإياك - أن جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم ، أو
عابه ،
أو ألحق به نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه ، أو خصلة من خصاله ، أو عرَّض به
، أو
شبَّهَه بشيء على طريق السب له أو الإزراء عليه أو التصغير لشأنه أو الغض
منه
والعيب له ، فهو سابٌّ له ، والحكم فيه حكم الساب ، يُقتل ...وكذلك مَن نسب
إليه ما
لا يليق بمنصبه على طريق الذم ، أو عَبَثَ في جهته العزيزة بسخفٍ من الكلام
، وهُجر
ومنكر من القول وزور ، أو عَيَّره بشيءٍ مما جرى من البلاء والمحنة عليه ،
أو
غَمَصَهُ ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه .
وهذا كله إجماع من العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم
إلى
هَلُمَّ جرًّا " انتهى
.
ولا شك أن إطلاق لفظ " البداوة " أو وصفه صلى الله عليه وسلم بـ " البدوي "
هو من
التنقص الصريح والعيب الواضح ، فإن البداوة وصفُ ذمٍّ وتنقيص ، يُقصَد به
الوسمُ
بالجهل والرعونة والجفاء ، وهو صلى الله عليه وسلم مُعَلَّمٌ من رب الأرض
والسماء ،
جاء وصفه في التوراة بأنه ( ليس بفظٍّ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ) ،
كما وصفه
الله سبحانه وتعالى بقوله : ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) القلم/4 ،
فكيف
يجرؤ كذاب أن يصفه صلى الله عليه وسلم بخلاف ذلك ؟! لا جرم أن في هذا مِن
الجرأة
والوقاحة ما يستحق عليها متعمدها العذاب والنكال في الدنيا والآخرة .
قال الله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ )
التوبة/61
.
قال النووي في "شرح مسلم" (1/169) :
" أهل البادية هم الأعراب ، ويغلب فيهم الجهل والجفاء ، ولهذا جاء فى
الحديث : ( من
بدا جفا ) والبادية والبدو بمعنًى : وهو ما عدا الحاضرة والعمران . والنسبة
اليها
بدوي " انتهى
.
وقد أفتى العلماء بكفر كلِّ وَصفٍ فيه إشعارٌ بتنقُّصِ قدرِ الرسول صلى
الله عليه
وسلم ولو لم يكن صريحا في ذلك ، حتى روى ابن وهب عن الإمام مالك رحمه الله :
" مَن قال : إن رداء النبي صلى الله عليه وسلم وَسِخ - وأراد به عَيْبه -
قُتل .
وقال أحمد بن أبى سليمان ( من علماء المالكية ، توفي عام 291هـ) : من قال
إن النبي
صلى الله عليه وسلم كان أسود ، يُقتل .
وأفتى فقهاء الأندلس بقتل " ابن حاتم " المُتَفَقِّه الطُّلَيطلي وصلبه ،
بما شُهد
عليه به من استخفافه بحق النبي صلى الله عليه وسلم ، وتسميته إياه أثناء
مناظرته بـ
" اليتيم " و " ختن حيدرة " ، وزعمه أن زهده لم يكن قصدا ، ولو قدر على
الطيبات
أَكَلَهَا . إلى أشباهٍ لهذا " انتهى
.
نقل جميع ما سبق القاضي عياض في "الشفا" (2/217-219) ، ثم قال :
" وكذلك أقول حكم من غَمَصَه ، أو عَيَّره برعاية الغنم ، أو السهو ، أو
النسيان ،
أو السحر ، أو ما أصابه من جُرحٍ أو هزيمة لبعض جيوشه ، أو أذى من عدوه ،
أو شدة من
زمنه ، أو بالميل إلى نسائه ، فحُكمُ هذا كلِّه - لِمن قصد به نقصَه -
القتل "
انتهى
.
ونسبته صلى الله عليه وسلم إلى " البداوة " من الكذب الصريح ، لأنه عاش في
مكة ، ثم
هاجر منها إلى المدينة ، وهما أفضل مدينتين في الأرض كلها ، فكيف يكون
بدوياً ؟!
ولم يعرف صلى الله عليه وسلم البادية إلا في صغره حين استرضع في بادية بني
سعد عند
مرضعته حليمة السعدية . انظر "السيرة
النبوية الصحيحة" د. أكرم العمري (1/103)
.
يقول الدكتور جواد علي في "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" (4/271) :
" المجتمع العربي : بدو وحضر . أهل وبر وأهل مدر ، فأما أهل المدر ، فهم
الحواضر
وسكان القرى ، وكانوا يعيشون من الزرع والنخل والماشية والضرب في الأرض
للتجارة .
وأما أهل الوبر ، فهم قطان الصحارى ، يعيشون من ألبان الإبل ولحومها ،
منتجعين
منابت الكلأ ، مرتادين لمواقع القطَر ، فيخيمون هنالك ما ساعدهم الخصب
وأمكنهم
الرعي ، ثم يتوجهون لطلب العشب وابتغاء المياه ، فلا يزالون في حلّ وترحال .
ويعرف الحضر ، وهم العرب المستقرون بـ " أهل المدر " ، عرفوا بذلك لأن
أبنية الحضر
إنما هي بالمدر . والمدر : قطع الطين اليابس .
وورد أن أهل البادية إنما قيل لهم " أهل الوبر " ، لأن لهم أخبية الوبر .
تمييزاً
لهم عن أهل الحضر الذين لهم مبان من المدر .
وتطلق لفظة " عرب " على أهل المدر خاصة ، أي على الحضر و " الحاضر " و "
الحاضرة "
من العرب ، أما أهل البادية فعرفوا بـ " أعراب " . "
انتهى
.
وسئل الشيخ محمد الحسن الددو حفظه الله :
لماذا ذكر الله أنه ما أرسل رسولاً إلا من أهل القرى ؟
فأجاب :
" أما كون الأنبياء جميعاً من سكان القرى كما أخبر الله بذلك في كتابه ،
فإن ذلك
مقتض منهم لحصول الرفعة ، وأهل البوادي دائماً أشد عنجهية وأسوأ أخلاقاً ،
وأقل
نظافةً ممن سواهم ؛ ولذلك قال الله تعالى في كتابه : ( الأَعْرَابُ أَشَدُّ
كُفْرًا
وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ
عَلَى
رَسُولِهِ ) التوبة/97
، وليس التحضر نسباً ، حتى يقال : فلان
بدوي ، معناه : أن أباه كان كذلك ، بل المقصود هو في نفسه ، فلو سكن شخص من
أهل
البادية في الحاضرة ، فإنه ليس من الأعراب ، ولا يدخل في ذلك ؛ بل المقصود
به من
يتصف بهذه الصفة بنفسه لا بنسبه .
الرسل عليهم الصلاة والسلام يراد بهم أن يسوسوا البشرية وأن يقودوها ، فلا
بد أن
يعرفوا طرق تدبير المعاش ، وهذه لا يعرفها أهل البوادي ، ولا يعتنون بها ،
فأهل
البوادي إنما يعيشون من الصيد – مثلاً - أو اتباع البهائم ، ويعيشون مع
الأحلام
والأوهام كثيراً ، وقد أخرج أحمد في المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال : ( من
طلب الصيد غفل ، ومن بدا جفا ) ومعناه : من سكن البادية غلظ طبعه ، ( ومن
طلب الصيد
غفل ) أي : نقص عقله بقدر ذلك ؛ فلهذا اختير الرسل من أهل القرى "
انتهى . "سلسلة دروس منشورة" (الدرس الثالث/ص/9)
.
وقال العلامة عبد الله بن جبرين حفظه الله :
" وكذلك أيضا من سخر بشيء من آيات الله تعالى ، أو بالنبي صلى الله عليه
وسلم ،
ذُكر عن بعض الكتاب أنه كتب مرة يطعن في النبي صلى الله عليه وسلم ويقول :
إنه بدوي
، إنه كان يرعى الغنم ، وإنه عاش في عهد ليس فيه تقدم ، وليس فيه كذا وكذا ،
ولا شك
أن هذا طعن في الدين ؛ لأن هذا الدين جاءنا من قبل هذا النبي الكريم ؛ فمن
طعن فيه
بأنه جاهل ، أو بأنه بدوي لا يعرف شيئا ، أو بأن هذا الذي جاء به من محادثة
فكره ،
أو أنه مما خيل إليه ، أو أنه يريد بذلك أن يكون له شهرة وأتباع ونحو ذلك ؛
يعتبر
قد كذب على الله ، وكذب النبي صلى الله عليه وسلم الذي جاء بهذا الدين
الشرعي ،
وكذَّب القرآن ، وكذَّب الشرع كله ، لا شك أن هذا أيضا قادح في الدين ،
قادح في
العقيدة ، وهو ما ذكر في هذه الآية : ( قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ
وَرَسُولِهِ
كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ) يعني بالاستهزاء بالله تعالى الاستهزاء بأسمائه
وصفاته ،
وكذلك الاستهزاء بكلامه والتنقص له ؛ داخل أيضا في القوادح في الدين .
وكذلك أيضا الاستهزاء بالقرآن ، كما ذكر الله تعالى عن الكفار الذين قالوا :
(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ
وَأَعَانَهُ
عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا )
الفرقان/4
وهؤلاء بلا شك أتوا بما يقدح في عقيدتهم وفي دينهم ؛ فلأجل ذلك جعل الله
مقالتهم
مقالة كفرية ، وكذلك أيضا هؤلاء الذين قدحوا في النبي صلى الله عليه وسلم
وقالوا :
إنه جاهل ، أو إنه بدوي ، أو ما أشبه ذلك " انتهى . نقلا عن موقع الشيخ تحت
هذا
الرابط :
وقال الشيخ
بكر أبو زيد حفظه الله في "معجم المناهي اللفظية" (496) :
" ووصْفُ النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بدوي مُناقضةٌ للقرآن الكريم ، فهو
صلى
الله عليه وسلم من حاضرة العرب لا من باديتها ، قال الله تعالى : ( وَمَا
أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ
الْقُرَى
) يوسف/109
وما يزال انعدام التوفيق يغْشى مَن في قلوبهم دخن ، ففي العقد التاسع بعد
الثلاثمائة والألف نشر أحد الكاتبين من البادية الدارسين مقالاً ، صرَّح
فيه بأن
النبي صلى الله عليه وسلم من البادية . وقد ردَّ عليه الشيخ حمود بن
عبدالله
التويجري النجدي برسالة سمَّاها : " منشور الصواب في الرد من زعم أن النبي
صلى الله
عليه وسلم من الأعراب " والله أعلم " انتهى
.
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي حفظه الله في "سلسلة دروس شرح زاد
المستقنع" (درس
رقم 395، ص/7) :
" إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم سباً مباشراً باللعن - والعياذ بالله - ،
أو
انتقصه كأن يصف النبي صلى الله عليه وسلم وصفاً ينتقصه به ، كأن يقول : إنه
بدوي
يرعى الغنم ، وقصد به التحقير له صلوات الله وسلامه عليه ، ونحو ذلك من
العبارات ؛
فإنه يحكم بكفره " انتهى
.
والله أعلم .