السؤال:
هل ورد شيء صحيح أو ضعيف عن تخفيف العذاب في النار لأبى لهب ؟
جزاكم الله خيرا .
الجواب :
الحمد لله
دلت
آيات القرآن الكريم أن الكافر لا يخفف عنه العذاب على كفره بحال من الأحوال
، وذلك
في قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى
عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا )
فاطر/36، وقال
تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا
رَبَّكُمْ
يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذَابِ . قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ
تَأْتِيكُمْ
رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ
الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ) غافر/49-50.
وأما أعمال الكفار الصالحة فيثاب عليها في الدنيا ، بالرزق والولد والنعمة
ونحو ذلك
، فهم أقوام عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا ، وأما في الآخرة فلا يكتب
له منها
شيء من الحسنات ، إذ الكفر محبط لجميع الحسنات ، ولا ينفع معه عمل صالح .
وإن كان
الكفار يتفاوتون في عذاب جهنم ، بحسب جرائمهم في الدنيا، مع خلودهم جيمعا
في جهنم
أبد الآبدين.
يقول الله تعالى : ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ
فَجَعَلْنَاهُ
هَبَاءً مَنْثُورًا ) الفرقان/23.
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ :
(
قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ
يَصِلُ
الرَّحِمَ وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ ؟ قَالَ : لَا
يَنْفَعُهُ ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي
يَوْمَ
الدِّينِ )
رواه مسلم (رقم/214)
ثانيا :
أما
ما يروى في تخفيف العذاب عن أبي لهب بسبب عتقه ثويبة مرضعة النبي صلى الله
عليه
وسلم فلم يرد ذلك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا من كلام الصحابة ،
وإنما
رؤيا منام أريها بعض أهله ، لا يجوز أن يعارض به ما سبق تقريره من بطلان
حسنات
الكافرين في الدنيا ، وأنها لا تغني عنهم عند الله شيئا ، فضلا عن أن
الوارد في ذلك
إنما هو بسند مرسل .
روى
البخاري (5101) من قول عروة بن الزبير رحمه الله ما يلي :
"
وثُوَيْبَةُ مَوْلَاةٌ لِأَبِي لَهَبٍ ، كَانَ أَبُو لَهَبٍ أَعْتَقَهَا
فَأَرْضَعَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، َلَمَّا
مَاتَ أَبُو
لَهَبٍ أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ حِيبَةٍ – أي بسوء حال -، قَالَ
لَهُ :
مَاذَا لَقِيتَ ؟ قَالَ أَبُو لَهَبٍ : لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ غَيْرَ
أَنِّي
سُقِيتُ فِي هَذِهِ بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ "
قال
ابن حجر رحمه الله :
قوله : ( وثويبة مولاة لأبي لهب ) ذكرها ابن منده في " الصحابة " وقال :
اختلف في
إسلامها. وقال أبو نعيم : لا نعلم أحدا ذكر إسلامها غيره , والذي في السير
أن النبي
صلى الله عليه وسلم كان يكرمها , وكانت تدخل عليه بعدما تزوج خديجة , وكان
يرسل
إليها الصلة من المدينة , إلى أن كان بعد فتح خيبر ماتت ومات ابنها مسروح .
قوله : ( وكان أبو لهب أعتقها فأرضعت النبي صلى الله عليه وسلم ) ظاهره أن
عتقه لها
كان قبل إرضاعها , والذي في السير يخالفه , وهو أن أبا لهب أعتقها قبل
الهجرة وذلك
بعد الإرضاع بدهر طويل ، وحكى السهيلي أيضا أن عتقها كان قبل الإرضاع ,
وسأذكر
كلامه .
قوله : ( بعض أهله ) ذكر السهيلي أن العباس قال : لما مات أبو لهب رأيته في
منامي
بعد حول في شر حال فقال : ما لقيت بعدكم راحة , إلا أن العذاب يخفف عني كل
يوم
اثنين , قال: وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين , وكانت
ثويبة بشرت
أبا لهب بمولده فأعتقها .
قوله ( بشر حيبة ) أي : سوء حال .
قوله ( ماذا لقيت ) أي : بعد الموت .
قوله ( لم ألق بعدكم , غير أني ) كذا في الأصول بحذف المفعول , وفي رواية
الإسماعيلي : ( لم ألق بعدكم رخاء ) ، وعند عبد الرزاق عن معمر عن الزهري :
( لم
ألق بعدكم راحة ) قال ابن بطال : سقط المفعول من رواية البخاري , ولا
يستقيم الكلام
إلا به .
قوله : ( غير أني سقيت في هذه ) كذا في الأصول بالحذف أيضا , ووقع في رواية
عبد
الرزاق المذكورة : ( وأشار إلى النقرة التي تحت إبهامه ) وفي ذلك إشارة إلى
حقارة
ما سقي من الماء .
وفي
الحديث دلالة عل أن الكافر قد ينفعه العمل الصالح في الآخرة ; لكنه مخالف
لظاهر
القرآن , قال الله تعال ( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا
)، وأجيب
:
أولا : بأن الخبر مرسل ، أرسله عروة ، ولم يذكر من حدثه به ، وعلى تقدير أن
يكون
موصولا فالذي في الخبر رؤيا منام ، فلا حجة فيه , ولعل الذي رآها لم يكن إذ
ذاك
أسلم بعد ، فلا يحتج به .
وثانياً : على تقدير القبول فيحتمل أن يكون ما يتعلق بالنبي صلى الله عليه
وسلم
مخصوصا من ذلك , بدليل قصة أبي طالب كما تقدم أنه خفف عنه فنقل من الغمرات
إلى
الضحضاح . وقال البيهقي : ما ورد من بطلان الخير للكفار فمعناه أنهم لا
يكون لهم
التخلص من النار ولا دخول الجنة , ويجوز أن يخفف عنهم من العذاب الذي
يستوجبونه على
ما ارتكبوه من الجرائم سوى الكفر بما عملوه من الخيرات .
وأما عياض فقال : انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ، ولا
يثابون
عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب ; وإن كان بعضهم أشد عذابا من بعض .
قلت
– أي الحافظ ابن حجر - : وهذا لا يرد الاحتمال الذي ذكره البيهقي , فإن
جميع ما ورد
من ذلك فيما يتعلق بذنب الكفر , وأما ذنب غير الكفر فما المانع من تخفيفه ؟
وقال القرطبي : هذا التخفيف خاص بهذا وبمن ورد النص فيه .
وقال ابن المنير في الحاشية : هنا قضيتان :
إحداهما محال : وهي اعتبار طاعة الكافر مع كفره , لأن شرط الطاعة أن تقع
بقصد صحيح
, وهذا مفقود من الكافر .
الثانية : إثابة الكافر على بعض الأعمال تفضلا من الله تعالى , وهذا لا
يحيله العقل
, فإذا تقرر ذلك لم يكن عتق أبي لهب لثويبة قربة معتبرة , ويجوز أن يتفضل
الله عليه
بما شاء كما تفضل على أبي طالب , والمتبع في ذلك التوقيف نفيا وإثباتا .
قلت
– أي الحافظ ابن حجر - : وتتمة هذا أن يقع التفضل المذكور إكراما لمن وقع
من
الكافر البر له ونحو ذلك . والله أعلم " انتهى.
"
فتح الباري " (9/145-146)
والله أعلم .