دائماً ما كنت أستغرب الحديث بأن الطقس إذا كان
حارّاً فإن هذا نفَس من أنفاس جهنم ، فهل هذا الحديث ضعيف؟ لأنه وفقاً
للحقائق التي سمعتها أننا نحصل على فصول السنة من خلال الشمس ، وميل الأرض ؟
.
الجواب :
الحمد لله
أولاً :
الحديث المشار إليه حديث صحيح في أعلى درجات الصحة ، وقد اتفق على إخراجه
الإمامان
البخاري ومسلم ، رحمهما الله .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ : (اشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ : يَا
رَبِّ
أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا ، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ : نَفَسٍ فِي
الشِّتَاءِ ،
وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ ،
وَأَشَدُّ
مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ) رواه البخاري (3087) ومسلم (617) .
قال
الحافظ ابن حجر رحمه الله :
"والمراد بالزمهرير : شدة البرد ، واستشكل وجوده في النار ، ولا إشكال ؛
لأن المراد
بالنار: محلها ، وفيها طبقة زمهريرية" انتهى .
"
فتح الباري " ( 2 / 19 ) .
ثانياً :
هل
كان كلام النار ، وشكوتها ، بلسان المقال أم بلسان الحال ؟ أكثر العلماء
-وهو
الصواب بلا ريب- على أنه كان بلسان المقال .
قال
الحافظ ابن عبد البر رحمه الله :
"وأما قوله في هذا الحديث : (اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب ، أكل
بعضي بعضاً
.... الحديث) : فإن قوماً حملوه على الحقيقة ، وأنها أنطقها الذي أنطق كل
شيء ،
واحتجوا بقول الله عز وجل : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ
وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) النور/24 ، وبقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) الإسراء/44 ، وبقوله : (يَا جِبَالُ أَوِّبِي
مَعَهُ) سبأ/10
، أي : سبِّحي معه ، وقال : (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ)
ص/18 ،
وبقوله : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ
مَزِيدٍ) ق/ 30 ، وما كان من مثل هذا ، وهو في القرآن كثير ، حملوا ذلك كله
على
الحقيقة ، لا على المجاز ، وكذلك قالوا في قوله عز وجل : (إِذَا رَأَتْهُمْ
مِنْ
مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) الفرقان/ 12 ، و
(تكَادُ
تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) الملك/8 ، وما كان مثل هذا كله .
وقال آخرون في قوله عز وجل : (سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) و
(تكَادُ
تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) : هذا تعظيم لشأنها ، ومثل ذلك قوله عز وجل :
(جِدَاراً
يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) الكهف/77 ، فأضاف إليه الإرادة مجازاً ، وجعلوا
ذلك من باب
المجاز ، والتمثيل في كل ما تقدم ذكره ، على معنى أن هذه الأشياء لو كانت
مما تنطق
، أو تعقل : لكان هذا نطقها وفعلها .
فمَن حمل قول النار وشكواها على هذا : احتج بما وصفنا ، ومن حمل ذلك على
الحقيقة :
قال : جائز أن يُنطقها الله ، كما تنطق الأيدي ، والجلود ، والأرجل يوم
القيامة ،
وهو الظاهر من قول الله عز وجل : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ
امْتَلأْتِ
وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) ق/ 30 ، ومن قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) الإسراء/44 ، و (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا
النَّمْلُ
ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ) النمل/18 ، وقال : قوله عز وجل : (تَكَادُ
تَمَيَّزُ مِنَ
الْغَيْظِ) الملك/8 : أي : تتقطع عليهم غيظاً ، كما تقول : فلان يتقد عليك
غيظاً ،
وقال عز وجل : (إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا
تَغَيُّظاً
وَزَفِيراً) الفرقان/ 12 ، فأضاف إليها الرؤية ، والتغيظ ، إضافة حقيقية ،
وكذلك كل
ما في القرآن من مثل ذلك .
ومن
هذا الباب عندهم قوله : (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ)
الدخان/29 ، و (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ
الْأَرْضُ
وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً) مريم/ 90 ، و (قَالَتَا أَتَيْنَا
طَائِعِينَ)
فصلت/11 ، (وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)
البقرة/74 ،
قالوا : وجائز أن تكون للجلود إرادة لا تشبه إرادتنا ، كما للجمادات تسبيح
وليس
كتسبيحنا ، وللجبال ، والشجر سجود وليس كسجودنا .
والاحتجاج لكلا القولين يطول ، وليس هذا موضع ذِكره ، وحمْل كلام الله
تعالى ،
وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم على الحقيقة : أولى بذوي الدِّين ، والحق ؛
لأنه يقص
الحق ، وقوله الحق ، تبارك وتعالى علوّاً كبيراً" انتهى .
"
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد " ( 5 / 11 – 16 ) .
ثم
اختلف العلماء أيضا في نفسي جهنم ، هل هما على الحقيقة ، أم على المجاز؟
وأكثر
العلماء على أن ذلك على الحقيقة أيضاً .
قال
الحافظ ابن حجر رحمه الله :
"قال القرطبي : لا إحالة في حمل اللفظ على حقيقته ، قال : وإذا أخبر الصادق
بأمر
جائز : لم يُحتج إلى تأويله ، فحمله على حقيقته : أولى ، وقال النووي نحو
ذلك ، ثم
قال : حمله على حقيقته هو الصواب ، وقال نحو ذلك التوربشتى .
ورجح البيضاوي حمله على المجاز ، فقال : شكواها مجاز عن غليانها ، وأكلها
بعضها
بعضاً: مجاز عن ازدحام أجزائها ، وتنفسها : مجاز عن خروج ما يبرز منها ،
وقال الزين
بن المنير : المختار حمله على الحقيقة ؛ لصلاحية القدرة لذلك [يعني : أن
الله تعالى
يقدر على ذلك] ، ولأن استعارة الكلام للحال وإن عهدت وسمعت ، لكن الشكوى ،
وتفسيرها
، والتعليل له ، والإذن ، والقبول ، والتنفس ، وقصره على اثنين فقط : بعيد
من
المجاز خارج عما أُلِف من استعماله" انتهى .
"
فتح الباري " ( 2 / 19 ) .
وقال الزرقاني رحمه الله :
"(أن النار اشتكت إلى ربها) حقيقة ، بلسان المقال ، كما رجحه من فحول
الرجال : ابن
عبد البر ، وعياض ، والقرطبي ، والنووي ، وابن المنير ، والتوربشتي ، ولا
مانع منه
سوى ما يخطر للواهم من الخيال" انتهى .
"
شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك " ( 1 / 59 ) .
وقد
رد بعض الجهلة هذا الحديث بزعم أنه مخالف للواقع ، من أن اختلاف الفصول
إنما يرجع
للعلاقة بين الشمس والأرض .
والجواب على هؤلاء أسهل مما يتصورون ؛ وذلك أن هذا الحديث ليس فيه أن
اختلاف الفصول
أو حصول الشتاء والصيف هو بسبب نفَسَيْ جهنم .
بل
الحديث نفْسُه يدل على وجود الفصلين (الشتاء والصيف) ابتداءً ، وأن "شدة
الحر" و
"شدة البرد" هما من أثر نفَسَي جهنم ، لا أنهما يكوِّنان "الصيف" و
"الشتاء" ، وهذا
واضح بأدنى تأمل في الحديث .
قال
ابن عبد البر رحمه الله :
"وأما قوله : (فأذن لها بنفسين : نفسٍ في الشتاء ، ونفس في الصيف) : فيدل
على أن
نفَسها في الشتاء : غير الشتاء ، ونفَسها في الصيف : غير الصيف" انتهى .
"
التمهيد " ( 5 / 8 ) .
وقد
رَدَّ آخرون الحديث لأن سبب شدة الحر أو شدة البرد معروف ، وهو بعد الشمس
أو قربها
من الأرض .
وقد
أجاب العلماء عن ذلك أيضاً ، وبينوا أنه لا تعارض بين الحديث ، وبين الواقع
،
قال
الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله :
"وفي هذا الحديث : دليل على أن الجمادات لها إحساس لقوله : (اشتكت النار
إلى ربها
فقالت : يا رب أكل بعضي بعضاً) ، من شدة الحر ، وشدة البرد , فأذن الله لها
أن
تتنفس في الشتاء ، وتتنفس في الصيف , تتنفس في الصيف ليخف عليها الحرَّ ,
وفي
الشتاء ليخفَّ عليها البرد , وعلى هذا فأشد ما نجد من الحرِّ : يكون من فيح
جهنم ,
وأشد ما يكون من الزمهرير : من زمهرير جهنم .
فإن
قال قائل : هذا مشكل حسَب الواقع ؛ لأن من المعروف أن سبب البرودة في
الشتاء هو :
بُعد الشمس عن مُسامتة الرؤوس , وأنها تتجه إلى الأرض على جانب ، بخلاف
الحر ،
فيقال : هذا سبب حسِّي ، لكن هناك سبب وراء ذلك , وهو السبب الشرعي الذي
لا يُدرك
إلا بالوحي , ولا مناقضة أن يكون الحرُّ الشديد الذي سببه أن الشمس تكون
على الرؤوس
أيضا يُؤذن للنار أن تتنفس فيزدادُ حرُّ الشمس , وكذلك بالنسبة للبرد :
الشمس تميل
إلى الجنوب , ويكون الجوُّ بارداً بسبب بُعدها عن مُسامتة الرؤوس , ولا
مانع من أنّ
الله تعالى يأذن للنار بأن يَخرج منها شيءٌ من الزمهرير ليبرِّد الجو ،
فيجتمع في
هذا : السبب الشرعي المُدرَك بالوحي , والسبب الحسِّي ، المُدرَك بالحسِّ .
ونظير هذا : الكسوف ، والخسوف , الكسوف معروف سببه , والخسوف معروف سببه .
سبب
خسوف القمر: حيلولة الأرض بينه ، وبين الشمس , ولهذا لا يكون إلا في
المقابلة ,
يعني : لا يمكن يقع خسوف القمر إلا إذا قابل جُرمُه جرمَ الشمس , وذلك في
ليالي
الإبدار ، حيث يكون هو في المشرق ، وهي في المغرب أو هو في المغرب ، وهي
في المشرق
.
أما
الكسوف فسببه : حيلولة القمر بين الشمس ، والأرض , ولهذا لا يكون إلا في
الوقت الذي
يمكن أن يتقارب جُرما النيّرين , وذلك في التاسع والعشرين أو الثلاثين ،
أو الثامن
والعشرين , هذا أمر معروف , مُدرك بالحساب , لكن السبب الشرعي الذي أدركناه
بالوحي
هو : أن الله ( يخوّف بهما العباد ) , ولا مانع من أن يجتمع السببان الحسي
والشرعي
, لكن من ضاق ذرعاً بالشرع : قال : هذا مخالف للواقع ولا نصدق به , ومن
غالى في
الشرع : قال : لا عبرة بهذه الأسباب الطبيعية ، ولهذا قالوا : يمكن أن
يكسف القمر
في ليلة العاشر من الشهر ! .... لكن حسَب سنَّة الله عز وجل في هذا الكون :
أنه لا
يمكن أن يَنخسف القمر في الليلة العاشر أبداً" انتهى .
"
شرح صحيح مسلم " ( شرح كتاب الصلاة ومواقيتها ، شريط رقم 10 ، وجه أ ) .
ونرجو أن يكون ما ذكرناه كافياً لتوضيح معنى الحديث ، وأنه لا يمكن للشرع
أن يخالف
شيئاً محسوساً في الواقع ، وإنما أتي الناس من جهلهم .
والله أعلم