السؤال:
يقول الله تعالى في سورة النحل : ( ثم كلي من كل الثمرات ) فمن المعلوم أن
النحل لا تأكل الثمرات ذاتها ، وإنما تمتص ( تأكل ) من أزهار الثمار فقط ،
فما تفسير هذه الآية تمامًا ؟ أرجو التوضيح .
الجواب :
الحمد لله
هذه
الآية من الآيات الكونية الدالة على عظيم خلق الله ودقيق إبداعه في صنعه ،
وقد جعل
عز وجل للبشر في خلق النحل وعجائب هدايته له ما يبهر العقول ويحير الألباب ،
وهذا
ما ندعو إلى التأمل فيه ، وليس التنقير عن شبهات يختلقها بعض الناس في
المنتديات ،
تذهب ببريق الحكمة والعظة من كلام الله عز وجل ، وهو أمر لا ينطلي إلا على
ضعاف
العقول ، أو من هانت عليه نفسه ، وهان عليه أمر دينه ، ففتح قلبه للشهوات ،
وجعل
نفسه تبعا لكل ناعق !!
يقول العلامة السعدي رحمه الله :
"
في خلق هذه النحلة الصغيرة ، التي هداها الله هذه الهداية العجيبة ، ويسر
لها
المراعي ، ثم الرجوع إلى بيوتها التي أصلحتها بتعليم الله لها ، وهدايته
لها ، ثم
يخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ مختلف الألوان بحسب اختلاف أرضها ومراعيها
، فيه
شفاء للناس من أمراض عديدة ، فهذا دليل على كمال عناية الله تعالى ، وتمام
لطفه
بعباده ، وأنه الذي لا ينبغي أن يحب غيره ، ويُدعَى سواه " انتهى.
"
تيسير الكريم الرحمن " (444)
وعلى كل حال : فأساس هذه الشبهة الضعف البالغ في فهم أساليب اللغة العربية
وأبواب
البيان والمجاز فيها ، وليس أي شيء آخر ، والجهل أساس كل داء .
يقول الله تعالى :
(وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ
بُيُوتًا
وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ . ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ
فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ
مُخْتَلِفٌ
أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ
يَتَفَكَّرُونَ ) النحل/68-69.
فقوله تعالى : ( كلي من كل الثمرات ) يتضمن مسائل لغوية مهمة ، منها :
أولا :
قوله عز وجل ( مِن ) يحتمل ثلاثة معاني :
1- يحتمل أن يراد به ( مِن ) التبعيضية .
2-ويحتمل أن يراد به ( مِن ) التي هي لابتداء الغاية ، وهذان المعنيان من
معاني حرف
الجر ( مِن ) أشهر معانيها التي تفيدها ، كما ذكر ذلك ابن هشام في " مغني
اللبيب "
(ص/419-420).
3- ويحتمل أن يراد بها ( مِن ) التي هي لبيان الجنس .
فإذا قلنا إنها ( مِن ) التبعيضية : أفادت أن إلهام الله للنحل كان بأن
تأكل جزءا
من الثمار ، وليس كل الثمار ، وهذا الجزء هو ما تأخذه النحلة من رحيق
الأزهار ، وإن
كان العلماء المتقدمون يذكرون في كتبهم أن النحل يصنع العسل من أكله لأوراق
الشجر
أيضا ، بل ومن بعض الذرات التي تكون في الهواء ، ولكن العلم الحديث لا يذكر
ذلك ،
فاكتفينا بما يذكره العلم الحديث ، والقرآن الكريم ذكر ( من ) التبعيضية ،
ولم يحدد
هذا البعض الذي تأكله النحلة فتصنع منه العسل .
وإطلاق ( الثمرات ) على الأزهار هو من المجاز المعروف باعتبار ما سيكون ،
تماما
كقوله تعالى : ( إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا ) يوسف/36، وهو إنما
يعصر العنب
، ولكن أطلق عليه الخمر باعتبار ما سيكون عليه عصير العنب بعد وقت ، وهكذا ،
أطلق
على الأزهار أنها ثمار ، باعتبار ما ستؤول إليه من الثمار النافعة ، بقرينة
المشاهد
المحسوس من معاينة كل الناس ، أن النحل إنما تقف على الأزهار ، ولا تأكل من
الثمرات
الحقيقية شيئا .
يقول القرطبي رحمه الله :
"
قوله تعالى : ( ثم كلي من كل الثمرات ) : وذلك أنها إنما تأكل النوار من
الأشجار "
انتهى.
"
الجامع لأحكام القرآن " (10/135)
ويقول ابن جزي الغرناطي :
" و
( من ) للتبعيض ، وذلك أنها إنما تأكل النوار من الأشجار ، وقيل المعنى من
كل
الثمرات التي تشتهيها " انتهى.
"
التسهيل " (2/257)
ويقول أبو حيان الأندلسي رحمه الله :
"
وظاهر ( مِن ) في قوله : ( من كل الثمرات ) أنها للتبعيض ، فتأكل من
الأشجار الطيبة
والأوراق العطرة أشياء يولد الله منها في أجوافها عسلاً .
قال
ابن عطية : إنما تأكل النوّار من الأشجار " انتهى.
"
البحر المحيط " (5/496)
وأما إذا قلنا : إن ( مِن ) هنا لابتداء الغاية ، فالمعنى المقصود أن النحل
تأكل
الرحيق ، ويكون أكلها مبتدأ من هذه الأزهار ، وليس من مكان آخر .
وإذا قلنا : إن ( مِن ) ههنا لبيان الجنس ، كقوله تعالى : ( وَيَلْبَسُونَ
ثِيَابًا
خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ) الكهف/31، أفادت معنى بيان ما ألهم
الله
النحل أن تأكله ، وهو الثمرات ، وليس أي جنس آخر من أجناس الطعام .
وكل
هذه المعاني صحيحة ، لا تعارض بينها ، واتساع اللغة العربية يضيف إلى آيات
القرآن
الكريم آفاقا كثيرة من المعاني والدلالات البديعة الجميلة .
يقول الخطيب الشربيني :
"
لفظ ( من ) هذا للتبعيض ، أو لابتداء الغاية " انتهى.
"
السراج المنير " (2/273) .
ثانيا :
وأما قوله تعالى في هذه الآية : ( كل الثمرات ) :
فيحتمل أن تكون الكلية ههنا مقصودة ، فتدل الآية على أن من هدي النحل
وجبلته أخذ
رحيق الأزهار ، من أي زهرة كانت .
ويحتمل ألا يكون التعميم مقصودا ، بل أغلبيا على سبيل المجاز ، كقوله تعالى
: (
لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ) البقرة/266.
والحقيقة أننا لا نستطيع الجزم بأحد هذين الاحتمالين ، إذ كل منهما معقول
محتمل ،
ولم نقف على دراسة علمية حديثة تحدد طبيعة الأزهار التي يقف عليها النحل ،
ويصنع من
رحيقها العسل المعروف ، على أن أكثر المفسرين حملوا ذلك على التبعيض ، وأن
العموم
غير مراد. قال ابن قتيبة رحمه الله :
" (
ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ) أي : من الثمرات ، وكلّ هاهنا ليس
على
العموم ، ومثل هذا قوله تعالى : ( تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ
رَبِّهَا ) "
انتهى .
"
غريب القرآن " (ص/246) . وينظر : " البحر المحيط " ، لأبي حيان (2/326) .
وقال العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله :
" (
كُلَّ ) هنا مستعملة في معنى الكثير ، وهو استعمال وارد في القرآن والكلام
الفصيح ،
قال تعالى : ( وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ ) يونس/97 " انتهى.
"
التحرير والتنوير " (23/160) .
وقال الدميري رحمه الله :
"
القرآن يدل على أنها ترعى الزهر ، فيستحيل في جوفها عسلاً وتلقيه من
أفواهها ،
فيجتمع منه القناطير المقنطرة قال الله تعالى : ( ثم كلي من كل الثمرات
فاسلكي سبل
ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس )، وقوله : (
من كل
الثمرات ) ، المراد به بعضها ، نظيره قوله تعالى : ( وأوتيت من كل شيء )
يريد البعض
، واختلاف الألوان في العسل بحسب اختلاف النحل والمرعى ، وقد يختلف طعمه
لاختلاف
المرعى " انتهى.
"
حياة الحيوان الكبرى " (2/463)
والله أعلم .