السؤال:
أنا بفضل الله أؤمن بالقرآن وأؤمن أنه لا تعارض بين نصوص القرآن أو بين
نصوص السنة بعضها ببعض كما هو معتقد أهل السنة والجماعة وأن ما يحدث
للإنسان من اشتباه وتعارض إنما يكون عن قصر فهم أو علم أو قلة بحث وكنت أود
أن لو عرضت عليكم شبهتي لكي يزول ما في صدري من اشتباه .. والسؤال كيف
أجمع بين قول الله تعالى : (وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ
يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) وبين الواقع حيث إننا نشاهد كثيراً من
الرجال تزوجوا وهم فقراء وماتوا فقراء وقد وعدهم الله بالغنى.. فهل معنى
الغنى في الآية هو غنى النفس بحيث يمتلىء صدره بالرضا؟
الجواب :
الحمد لله
ذهب
كثير من المفسرين إلى أن هذه الآية الكريمة : (وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى
مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ
يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) النور/32 ،
وعدٌ من
الله تعالى للفقراء بالغنى إن أرادوا النكاح .
قال
ابن عباس رضي الله عنهما : أمر الله سبحانه بالنكاح ، ورغَّبهم فيه ،
وأمرهم أن
يزوّجوا أحرارهم وعبيدهم ، ووعدهم في ذلك الغنى .
وعن
ابن مسعود : التمسوا الغنى في النكاح ، يقول الله تعالى : (إِنْ يَكُونُوا
فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) .
"تفسير الطبري" (19/166) .
وقال ابن كثير رحمه الله :
"وقد زوَّج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لم يجد إلا إزاره ،
ولم
يقدر على خاتم من حديد ، ومع هذا فزوّجه بتلك المرأة ، وجعل صداقها عليه أن
يعلمها
ما يحفظه من القرآن .
والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه وإياها ما فيه كفاية له ولها"
انتهى .
"تفسير ابن كثير" (6/51-52) .
وقال ابن عاشور رحمه الله :
"
وعد الله المتزوج من هؤلاء إن كان فقيرا أن يغنيه الله ، وإغناؤه تيسير
الغنى إليه
إن كان حرا ، وتوسعة المال على مولاه إن كان عبدا" انتهى .
"التحرير والتنوير" ( ص 2901) .
وقال السعدي رحمه الله :
"فلا يمنعكم ما تتوهمون من أنه إذا تزوج افتقر بسبب كثرة العائلة ونحوه ،
وفيه حث
على التزوج ، ووعد للمتزوج بالغنى بعد الفقر" انتهى .
"تفسير السعدي" ( ص 567) .
ويؤيد ذلك : ما رواه الترمذي (1655) عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه
قَالَ :
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (ثَلَاثَةٌ
حَقٌّ عَلَى
اللَّهِ عَوْنُهُمْ : الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَالْمُكَاتَبُ
الَّذِي
يُرِيدُ الْأَدَاءَ ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ) . وحسنه
الألباني
في "صحيح الترمذي" .
ولا
شك أن كثيراً ممن تزوجوا لم يحصل لهم الغنى بالمال ، وماتوا وهم فقراء ،
وقد ذكر
العلماء رحمهم الله أوجهاً كثيرة للجمع بين هذا الواقع ، وبين هذه الآية
الكريمة :
(وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ
وَإِمَائِكُمْ
إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ
عَلِيمٌ) النور/32 ، منها :
1-
أنه ليس المقصود بالغنى في الآية الغنى بالمال ، وإنما المراد غنى النفس ،
وهو
القناعة ، وهذا الغنى أفضل من غنى المال ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم :
(لَيْسَ
الْغِنَى
عَنْ
كَثْرَةِ
الْعَرَضِ،
وَلَكِنَّ
الْغِنَى
غِنَى
النَّفْسِ) رواه البخاري (6446) .
قال
السمرقندي :
"والغنى على وجهين : غني بالمال وهو أضعف الحالين ، وغنى بالقناعة وهو أقوى
الحالين" انتهى .
"بحر العلوم" (3/214) .
وانظر : تفسير القرطبي (12/241 ، 242) .
2-
أنه ليس المقصود بالفقر والغنى في الآية المال ، وإنما المراد أن من أراد
أن يتزوج
ليعف نفسه وهو محتاج إلى ذلك ، فإن الله تعالى ييسر له النكاح الحلال
ليستغن به عن
الزنا .
قال
القرطبي : "وقيل : المعنى : إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله بالحلال
ليتعففوا عن الزنا " انتهى .
"تفسير القرطبي" (12/241 ، 242) .
3-
أن هذه الآية الكريمة : (إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ) مقيدة بمشيئة الله تعالى ، فمن شاء الله أن يغنيه أغناه ، ومن
شاء ألا
يغنيه لم يغنه ، وتقييد ذلك بمشيئة الله وإن لم يذكر في الآية الكريمة ،
إلا أنه
معلوم ، وقد ذُكر مثله في آيات أخرى ، كقوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ
عَيْلَةً
فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ)التوبة/28 ، وقوله
تعالى :
(يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ) الرعد/26 ، وقوله : (فَيَكْشِفُ مَا
تَدْعُونَ
إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ) الأنعام/41 .
قال
الشوكاني :
"
قال الزجاج : حث الله على النكاح وأعلم أنه سبب لنفي الفقر ، ولا يلزم أن
يكون هذا
حاصلا لكل فقير إذا تزوج ؛ فإن ذلك مقيد بالمشيئة ، وقد يوجد في الخارج
كثير من
الفقراء لا يحصل لهم الغنى إذا تزوجوا . وقيل المعنى : إنه يغنيه بغنى
النفس ، وقيل
المعنى : إن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله من فضله بالحلال ليتعففوا
عن الزنا
. والوجه الأول أولى ويدل عليه قوله سبحانه : ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم
الله من
فضله إن شاء ) فيحمل المطلق هنا على المقيد هناك " انتهى .
فتح
القدير - (ج 4 / ص 41).
وانظر : "تفسير القرطبي" (12/241 – 242) ، و "تفسير البيضاوي" (ص 184) .
4-
أنه سواء كان المقصود الغنى بالمال ، أو غنى النفس بالقناعة ، فليس في
الآية أن هذا
الغنى يكون مستمراً في جميع الأوقات ، بل متى حصل هذا الغنى ولو وقتاً
يسيراً فقد
تحقق الوعد المذكور في الآية الكريمة .
قال
القرطبي :
"فإن قيل : فقد نجد الناكح لا يستغنى ، قلنا : لا يلزم أن يكون هذا على
الدوام ، بل
لو كان في لحظة واحدة لصدق الوعد" انتهى .
"تفسير القرطبي" (12/241 – 242) وانظر : "أحكام القرآن" (6/84) .
5-
ما ذهب إليه ابن القيم رحمه الله : أن هذه الآية : (إِنْ يَكُونُوا
فُقَرَاءَ
يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) ليست وعداً بالغنى لكل أحد تزوج ، وإنما
هي وعد
لمن ذكروا في الآية فقط ، وهم : الأيامى أي : النساء ، والعبيد والإماء ،
فهؤلاء هم
الذين يحصل لهم الغنى ، أما النساء والإماء فيحصل لهن الغنى بنفقة أزواجهن
عليهن ،
وأما العبد فيغنيه الله إما بالعمل والكسب ، وإما بإنفاق سيده عليه .
فقال رحمه الله :
"
فإن قيل : فقد قال الله تعالى : ( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من
عبادكم
وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ) وقال في الآية الأخرى : (
وليستعفف
الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله ) فأمرهم بالاستعفاف إلى وقت
الغنى
وأمر بتزويج أولئك مع الفقر وأخبر أنه تعالى يغنيهم ، فما محمل كل من
الآيتين؟
فالجواب : أن قوله : ( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من
فضله ) في
حق الأحرار ، أمرهم الله تعالى أن يستعفوا حتى يغنيهم الله من فضله ؛ فإنهم
إن
تزوجوا مع الفقر التزموا حقوقا لم يقدروا عليها وليس لهم من يقوم بها عنهم .
وأما
قوله : ( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ) فإنه سبحانه
أمرهم
فيها أن يُنكحوا الأيامى وهن النساء اللواتي لا أزواج لهن ، هذا هو المشهور
من لفظ
الأيم عند الإطلاق وإن استعمل في حق الرجل بالتقييد ، مع أن العزب عند
الإطلاق
للرجل , وإن استعمل في حق المرأة ، ثم أمرهم سبحانه أن يزوجوا عبيدهم
وإماءهم إذا
صلحوا للنكاح . فالآية الأولى في حكم تزوجهم لأنفسهم , والثانية في حكم
تزويجهم
لغيرهم . وقوله في هذا القسم : ( إن يكونوا فقراء ) يعم الأنواع الثلاثة
التي ذكرت
فيه ، فإن الأيم تستغني بنفقة زوجها وكذلك الأمة ، وأما العبد فإنه لما كان
لا مال
له وكان ماله لسيده فهو فقير ما دام رقيقا ، فلا يمكن أن يجعل لنكاحه غاية
وهي غناه
ما دام عبدا , بل غناه إنما يكون إذا عتق واستغنى بهذا العتق ، والحاجة
تدعوه إلى
النكاح في الرق ، فأمر سبحانه بإنكاحه وأخبر أنه يغنيه من فضله : إما بكسبه
وإما
بإنفاق سيده عليه وعلى امرأته ، فلم يمكن أن ينتظر بنكاحه الغنى الذي ينتظر
بنكاح
الحر ، والله أعلم" انتهى .
"روضة المحبين" (ص 317-318) .
وبهذا يتبين أنه ليس هناك تعارض بين هذه الآية الكريمة وبين الواقع من كون
بعض
الناس يتزوج ولا يحصل له الغنى .
والله أعلم