قال الله تعالى ( وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي
الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ . إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ
رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ
شَكُورٍ) الشورى/ 32 ، 33 ، كيف نفسر الآيتين وفي عصرنا الجواري تتحرك
بالوقود ، ولا تنتظر الرياح ؟ .
الجواب:
الحمد لله
أولاً:
يخبر الله تعالى في هاتين الآيتين عن آية مشاهَدة من آياته العظام ، وهي
مسير السفن
في البحار ، وأطلق على السفن لفظ " الجواري " ، وهي جمع " جارية " ، كما
قال تعالى
: ( إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ )
الحاقة/ 11 ،
وسمِّيت جارية : لجريها في البحار ، وأخبر تعالى أن السفن في البحار
كالجبال في
البر ، ولذا وصفها بأنها " أعلام " ، وأخبر تعالى عن تسييره لتلك السفن
بالريح ،
وأنه لو يشاء لأسكن تلك الرياح فتوقفت السفن عن الجري ، أو يهلك الله تلك
السفن بمن
فيها ، وهو على كل شيء قدير ، لكنه تعالى تسبق رحمته غضبه ، ويعفو تعالى عن
كثير من
مما يفعله عباده من السوء .
ثانياً:
الاتجاهات في تفسير هاتين الآيتين متعددة ، ونحن نذكر أشهرها ، فنقول :
1. ذهب عامة المفسرين إلى أن هذه الآيات في سفن معروفة منذ القدم ، وهي
السفن
الشراعية ، ولا يزال هذا النوع مستعملاً الآن ، وهي تعتمد في حركتها على
الريح ،
باعتباره سبباً قدره الله تعالى لتحريكها في عباب البحار.
2. ومن المفسرين من رأى أن " الريح " في الآية بمعنى القوة ، واستدل على
ذلك بقوله
تعالى ( وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ) الأنفال/ من
الآية
46 ، وذكر هؤلاء أن " الريح " أُطلقت في القرآن وأريد بها معاني : القوة –
وسبق
الدليل عليه - ، والرائحة ، والدليل عليه قوله تعالى ( وَلَمَّا فَصَلَتِ
الْعِيرُ
قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ )
يوسف/
94 ، والمعنى الثالث : الرياح في الفضاء ، ودليله : قوله تعالى ( مَثَلُ
مَا
يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ
أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ) آل عمران/ من الآية 117 .
3. وذهب آخرون إلى أن سكون الريح في الفضاء يتسبب في إيقاف السفن على أي
وجه كان
تشغيلها ، وبأي وقود تحركت به .
4. وقال آخرون : إن كل أنواع الوقود المستعمل في تحريك السفن الحديثة يعتمد
على
إخراج هواء لدفع السفن للأمام ، وأن هذا الهواء يدخل في معنى الآية العام .
هذه هي أبرز اتجاهات من تكلم في معنى الآيات السابقة ، والذي يظهر – والله
أعلم
- : أن المعنى الأول هو المراد ، وأنه هو الذي عليه عامة المفسرين ، لا
يُعرف
بينهم خلاف ، وأنه إن ثبت على وجه القطع أثر الريح في إيقاف السفن على أي
وقود كان
تحركها : فهو غير مخالف للآية ، بل يكون دليلاً يضاف إلى أدلة الشرع
الكثيرة في "
الإعجاز العلمي " ، وإن لم يثبت : فلا حاجة لنا به ، وثمة ما يغني عنه .
ومما يدل على خطأ من ذكر أن الريح هنا بمعنى القوة : قوله تعالى : ( هُوَ
الَّذِي
يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي
الْفُلْكِ
وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ
عَاصِفٌ
وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ
بِهِمْ
دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ
هَذِهِ
لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ) يونس/ 22 ، فقوله تعالى " بريح طيبة "
يرد
على من قال إنها القوة .
ثالثاً:
ننبه هنا إلى أمور :
أ. أنه لا مانع من الحديث في القرآن ، والسنَّة عن نوع واحد من المركوبات ،
أو
وسائل النقل ، وهي التي يعرفها المخاطَب ويستعملها ، وإنه لمن الغلو أن
نجعل ذلك
اللفظ يشمل غيره من وسائل النقل ، أو المركوبات ، إلا أن يكون اللفظ اسم
جنس ، فيعم
.
ب. نصَّ الله تعالى على وجود وسائل للركوب ، والنقل ، لا يعرفها المخاطَبون
بالقرآن
في زمانهم ، لكن على وجه الإجمال والإشارة المفهمة لما وراءها من المعنى ؛
لعدم
إحاطة المخاطبين في ذلك الزمان بمعناها على التفصيل . فهل سيقال لهم ـ مثلا
ـ إن
ثمة سفنا ستتحرك بالطاقة النووية – مثلاً - ؟ وفي ضوء ذلك تأمل ما تضمنته
تلك
الآيات من الإعجاز والبيان ، نحو قوله تعالى : ( وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ
وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ )
النحل/ 8 ،
وقوله تعالى ( وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي
الْفُلْكِ
الْمَشْحُونِ . وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ) يّـس/
41 ، 42
.
ج. أن الله تعالى ذكر في كتابه الكريم أنه تعالى هو الذي يُسَيِّر الفلك
بأمره ،
وهذا حكم عام ، يشمل كل ما يسير في البحر ، وبأي وقود كان ، ومنه :
قوله تعالى ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ
وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ) الحج/ من الآية 65 ، وقوله
:
( وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ ) الروم/ 46 ، وهذا
كافٍ في بيان المقصود ، وأنه مهما كانت السفن تمخر عباب البحار والمحيطات
فإنها
تسير بأمر الله تعالى ، والقادر على تسكين الريح في السفن الشراعية ، ليس
عاجزا عن
إيقاف المحركات المصنوعة من البشر العاجز الضعيف ، أو تقدير ما به يكون تلف
السفينة
وغرق أهلها ، ولنعتبر جميعاً بالسفينة العملاقة " تايتنك " ! – وتعني :
القوة
الهائلة ، أو الجبارة - ، والتي سارت في " المحيط الأطلنطي " من " بريطانيا
" إلى "
أمريكا " عام 1912 م ، وقد بلغت الجرأة بأحد موظفي الشركة المصنعة للسفينة
أن يقول
بما ترجمته "
حتى الله نفسه لا يستطيع إغراق هذه السفينة " ! وهو لسان حال كثيرين ممن
رأى
الاحتياطات التي في السفينة من أجل أن لا تغرق ! فكان أن قدَّر الله لها
جبلاً
جليديّاً في طريقها تسبَّب في تلفها ، ومن ثم إغراقها بالكلية ، وغرق حوالي
1500
راكب ! ، فمن الذي جرت تلك السفينة العملاقة بأمره ؟ ومن الذي قدَّر عليها
الغرق ؟
إنه الله تعالى ، وما البشر إلا عبيد ضعفاء ، لا يملكون من أمرهم شيئاً .
ولذا جاء بعد الآيتين اللتين في الشورى الواردتين في السؤال قوله تعالى : (
أَوْ
يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ) الشورى/ 34 ، ومعنى "
يوبقهن
" أي : يهلك السفن ، وأهلها .
والله أعلم