السؤال :
قال تعالى في سورة الكهف (وأما السفينة فأردت أن أعيبها .... وأما الغلام
....فأردنا أن يبدلهما ... وأما الجدار .....فأراد ربك أن ...) والسؤال هو :
لماذا ذكر في أمر السفينة على لسان الرجل الصالح أردت ونسب الإرادة إلى
نفسه فقط , وفي الحالة الثانية نسبة الإرادة إلى الله عز وجل وإلى نفسه ,
وفي الحالة الثالثة نسبة الإرادة إلى الله فقط , ثم قال : (وما فعلته عن
أمري) ؟ فهل هناك تفسير لهذا الأمر من هذا الوجه ؟
الجواب :
الحمد لله
قول الخضر عليه السلام عن السفينة : ( فَأَرَدْتُ
أَنْ أَعِيبَهَا ) هو من التأدب مع الله تعالى ، حيث نسب إرادة العيب إلى
نفسه ،
ولم ينسبه إلى الله مع أنه هو الذي قدَّره ، تأدباً مع ربه سبحانه .
وأما قوله : ( فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا
رَبُّهُمَا ) فالإرادة هنا تخصه هو ، وهو نبي ، يفعل عن أمر الله ، كما قال
: ( وما
فعلته عن أمري ) فناسب ضمير الجمع .
قال القرطبي رحمه الله:
" وقال في الغلام : ( فأردنا ) فكأنه أضاف القتل
إلى نفسه ، والتبديل إلى الله تعالى " انتهى .
"الجامع لأحكام القرآن" (11 / 40) .
وأما قوله : ( فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا
أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ )
فهو جار على الأصل من نسبة الخير إلى الله تعالى .
وقد كان من ثناء النبي صلى الله عليه وسلم على الله
تعالى قوله : (وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْكَ ، وَالشَّرُّ لَيْسَ
إِلَيْكَ)
رواه مسلم (771) .
قال النووي :
" قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْره : فِيهِ
الْإِرْشَاد إِلَى الْأَدَب فِي الثَّنَاء عَلَى اللَّه تَعَالَى ,
وَمَدْحه بِأَنْ
يُضَاف إِلَيْهِ مَحَاسِن الْأُمُور دُون مَسَاوِيهَا عَلَى جِهَة الْأَدَب
" انتهى
.
قال ابن القيم :
" الطريقة المعهودة في القرآن الكريم هي أن أفعال
الإحسان والرحمة والجود تضاف إلى الله سبحانه وتعالى ، فيذكر فاعلها منسوبة
إليه
ولا يبني الفعل معها للمفعول ، فإذا جيء بأفعال العدل والجزاء والعقوبة حذف
وبني
الفعل معها للمفعول أدبا في الخطاب ، وإضافته إلى الله تعالى أشرف قسمي
أفعاله .
فمنه قوله تعالى : ( اهْدِنَا الصِّرَاطَ
الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ) .
[يعني أنه في الإنعام قال : (أنعمت) وفي الغضب قال
: (المغضوب عليهم) ولم يقل : غضبت عليهم] .
ونظيره قول إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه
( الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين )
الشعراء/78-80 . فنسب الخلق والهداية والإحسان بالطعام والسقي إلى الله
تعالى ،
ولما جاء إلى ذكر المرض قال : ( وإذا مرضت ) ولم يقل : ( أمرضني ) وقال : (
فهو
يشفين ) .
ومنه قوله تعالى حكاية عن مؤمني الجن : ( وأنا لا
ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ) الجن/10 . فنسبوا
إرادة الرشد
إلى الرب ، وحذفوا فاعل إرادة الشر ، وبنوا الفعل للمفعول .
ومنه قول الخضر عليه الصلاة والسلام في السفينة (
فأردت أن أعيبها ) فأضاف العيب إلى نفسه . وقال في الغلامين : ( فأراد ربك
أن يبلغا
أشدهما ) الكهف/82 "
انتهى مختصرا .
"بدائع الفوائد" (2/256) .
" ومثله قوله : ( ولكن الله حبب إليكم الإيمان
وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ) الحجرات/7 . فنسب هذا
التزيين
المحبوب إليه ، وقال : ( زُيّن للناس حب الشهوات من النساء والبنين ... )
آل
عمران/14 ، فحذف الفاعل المُزَيِّن "
"بدائع الفوائد" (2/440) .
وقال القرطبي رحمه الله :
" أضاف عيب السفينة إلى نفسه رعاية للأدب ؛ لأنها
لفظة عيب فتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه ، كما تأدب إبراهيم
عليه
السلام في قوله : ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ) فأسند الفعل قبل
وبعد إلى
الله تعالى ، وأسند إلى نفسه المرض ، إذ هو معنى نقصى ومصيبة ، فلا يضاف
إليه
سبحانه وتعالى من الألفاظ إلا ما يستحسن منها دون ما يستقبح ، وهذا كما
قال تعالى : ( بِيَدِكَ الْخَيْرُ ) واقتصر عليه
فلم ينسب الشر إليه ، وإن كان بيده الخير والشر والضر والنفع ، إذ هو على
كل شيء
قدير " انتهى .
"الجامع لأحكام القرآن" (11 / 39-40) .
وقال ابن كثير في "تفسيره" (6 / 146) :
" وقوله : ( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ )
أسند المرض إلى نفسه ، وإن كان عن قدر الله وقضائه وخلَقْه ، ولكن أضافه
إلى نفسه
أدبا " انتهى .
وسئل الشيخ ابن باز رحمه الله :
ورد في سورة الكهف على لسان الرجل الصالح في قصته
مع موسى عليه السلام ، في قوله تعالى: ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ
لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ) إلى قوله تعالى: ( ذَلِكَ
تَأْوِيلُ مَا
لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا )
لاحظت أنه عند السفينة قال: ( فَأَرَدْتُ أَنْ
أَعِيبَهَا ) وعند ذكر الأبوين المؤمنين: ( فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا
رَبُّهُمَا ) وعند ذكر قصة اليتيمين صاحبي الجدار: ( فَأَرَادَ رَبُّكَ )
فما الفرق
بين التعابير الثلاثة ؟ وهل ذلك يعني أن للرجل الصالح إرادة في الأمر مع
إرادة الله
؟
فأجاب :
" الصحيح أن هذا الرجل هو الخضر صاحب موسى عليه
الصلاة والسلام ، وأنه نبي ، وليس مجرد رجل صالح بل الصحيح أنه نبي ، ولهذا
قال: (
وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) أي : بل عن أمر الله سبحانه وتعالى .
وجاء في القصة نفسها في الصحيح أنه قال لموسى: (
إنك على علم من علم الله علمك الله إياه لا أعلمه أنا ، وأنا على علم من
علم الله
علمنيه لا تعلمه أنت ) .
فدل ذلك على أنه من الأنبياء ، ولهذا قال: (
فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا )
وقال : ( وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ) والرسول
يعلم إرادة الله حيث جاءه الوحي بذلك .
وفي قصة السفينة نسب الأمر إليه ( فَأَرَدْتُ أَنْ
أَعِيبَهَا ) هذا والله أعلم لأن الرب سبحانه ينسب إليه الشيء الطيب ،
والعيب ظاهره
ليس من الشيء الطيب ، فنسبه إلى نفسه تأدبا مع ربه عز وجل، فقال: (
فَأَرَدْتُ أَنْ
أَعِيبَهَا ) وهذا عيب يراد منه أن تسلم السفينة حتى لا يأخذها الملك ;
لأنه كان
يأخذ كل سفينة صالحة سليمة فأراد الخضر أن يعيبها لتسلم من هذا الملك إذا
رآها
معيبة خاربة تسلم من شره وظلمه ، فلما كان ظاهر الأمر لا يناسب ولا يليق
إضافته لله
نسبه لنفسه فقال : ( فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا )
وعند ذكر الأبوين المؤمنين قال : ( فَأَرَدْنَا
أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا ) كذلك لما كان أمرا طيبا نسبه إلى نفسه ؛
لأنه
مأمور من جهة الله عز وجل ( أردنا ) ، وذكر نون الجمع ؛ لأنه نبي ، والنبي
رجل عظيم
فناسب أن يقول : ( أردنا ) ، ولأنه عن أمر الله وعن توجيه الله فناسب أن
يقال فيه :
( أردنا ) ، ولأنه كان عملا طيبا ومناسبا وفيه مصلحة .
ولما كان أمر اليتيمين فيه خير عظيم وصلاح لهما ،
ومنفعة لهما قال : ( فَأَرَادَ رَبُّكَ ) فنسب الخير إليه سبحانه وتعالى ،
وهذا من
جنس قول الجن في سورة الجن ، حيث قال سبحانه عن الجن : ( وَأَنَّا لَا
نَدْرِي
أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ
رَشَدًا )
الجن/10 ، فالشر لم يضيفوه إلى الله سبحانه وتعالى، ولما جاء الرشد قالوا: (
أَمْ
أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ) فنسبوا الرشد إلى الله سبحانه وتعالى ،
لأن
الرشد خير فنسبوه إلى الله ، وأما الشر فلا ينسب إليه ، كما جاء في الحديث
الصحيح :
( والشر ليس إليك ) ، وهذا من الأدب الصالح ، من أدب الجن المؤمنين ، ومن
أدب الخضر
عليه الصلاة والسلام " انتهى .
"فتاوى نور على الدرب" (1 /109-111) .
والله أعلم