هل عاش نوح عليه السلام (950) سنة ، ولماذا ذكر قي القرآن أنه عاش ألف سنة إلا خمسين عاما ، حيث ميز بين السنة والعام ؟
الحمد لله
في عمر نوح عليه السلام العظة والعبرة البالغة :
فهي قرون طويلة قضاها في قومه يدعوهم إلى الله تعالى ، يشفق عليهم من عذابه ، ويرجو لهم رحمته ، ولم يصبه اليأس ولا أخذه القنوط ، بل رجا أن يهديهم الله على يديه وإن طال الزمان، فكانت سنوات عمره دروسا للدعاة والمعلمين والمربين في الصبر والعزيمة والإيمان.
كما أن فيها من العظة والعبرة لكل إنسان ، ليدرك أن الموت آت وإن طال الزمان ، وأن العمر إنما هو أيام تتقضى مع غروب شمس كل يوم ، لتسدل الستار على قصة روحه التي منحت فرصة نيل السعادة الأبدية في الجنة ، فيا فوزها إن كان سعيها في تحصيل هذه السعادة ، ويا خسارها إن قصرت وفرطت .
روى ابن أبي الدنيا في "الزهد" (رقم/358) بسنده عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال :
جاء ملك الموت إلى نوح عليه السلام ، فقال : يا أطول النبيين عمرا ! كيف وجدت الدنيا ولذتها ؟ قال : " كرجل دخل بيتا له بابان ، فقام في وسط البيت هنيهة – القليل من الزمان - ، ثم خرج من الباب الآخر " انتهى .
والمسلم الحصيف هو الذي يلتفت إلى هذه المعاني والعبر ، فتبعث في نفسه العزيمة وتحثها على العمل ، ولا ينبغي أن يشغل باله كثيرا بتفاصيل التاريخ التي لم يلتفت إليها الوحي في بيانه ، ولم يثبت فيها شيء من أدلة الشريعة المعتمدة .
ومن ذلك السؤال عن تحديد عمر نوح عليه السلام ، فقد ورد فيه عدة أقوال لعلماء للسلف من الصحابة والتابعين ، ولم يثبت فيه شيء من الكتاب والسنة الصريحة كي يجزم بأحد هذه الأقوال ، ولكننا نسرد هذه الأقوال هنا من باب زيادة العلم بما تنقله كتب السلف :
القول الأول : (950) سنة : وهو قول قتادة .
جاء في "تفسير القرآن العظيم" لابن كثير (6/268) :
" وقال قتادة : يقال إن عمره كله كان ألف سنة إلا خمسين عاما ، لبث فيهم قبل أن يدعوهم ثلثمائة سنة ، ودعاهم ثلثمائة ، ولبث بعد الطوفان ثلثمائة وخمسين سنة " انتهى .
روى نحوه ابن أبي حاتم في "التفسير" (رقم/18041)
القول الثاني : (1050) سنة : قاله ابن عباس .
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال :
" بعث الله نوحا وهو ابن أربعين سنة ، ولبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله ، وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس وفشوا " انتهى .
عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (6/455) لكل من ابن أبي شيبة (7/18) ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والحاكم (9/251) ، وصححه وابن مردويه .
القول الثالث : (1020) سنة : قول كعب الأحبار .
روى ابن أبي حاتم في "التفسير" (رقم/18043) حدثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، ثنا الوليد، ثنا أبو رافع إسماعيل بن رافع، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن كعب الأحبار، في قول الله: " فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما " ، قال:"عاش بعد ذلك سبعين عاما".
القول الرابع: (1400) سنة : يحكى عن ابن عباس ، وهو قول وهب بن منبه :
انظر "تفسير القرطبي" (13/332)
القول الخامس : (1650) سنة : قول عون بن أبي شداد .
عن عون بن أبي شداد ، قال :
" إن الله تبارك وتعالى أرسل نوحا إلى قومه وهو ابن خمسين وثلاث مائة سنة ، فدعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما ، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلاث مائة سنة "
رواه ابن أبي حاتم في "التفسير" (رقم/18044) والطبري في "جامع البيان" (20/17)
القول السادس : (1700) سنة ، قول عكرمة .
عن عكرمة رضي الله عنه قال :
" كان عمر نوح عليه السلام قبل أن يبعث إلى قومه وبعدما بعث ألفا وسبعمائة سنة " انتهى .
عزاه السيوطي في "الدر المنثور" (6/456) لعبد بن حميد
قال ابن كثير في "تفسير القرآن العظيم" (6/268) بعد أن استغرب الأقوال السابقة :
" وقول ابن عباس أقرب " انتهى .
ثانيا :
اختلف المفسرون أيضا في الحكمة من استعمال لفظي " السنة " و " العام " ، على قولين :
القول الأول : ذهب بعض المفسرين إلى أنها حكمة لفظية فحسب ، لأن تكرار اللفظ نفسه فيه ثقل على اللسان ، فجاء بلفظ مرادف مغاير ، وهو " عاما " لتحقيق الخفة المطلوبة .
يقول الزمخشري في "الكشاف" :
" فإن قلت : فلم جاء المميز أوّلاً بالسنة وثانياً بالعام ؟ قلت : لأنّ تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد حقيق بالاجتناب في البلاغة ، إلا إذا وقع ذلك لأجل غرض ينتحيه المتكلم من تفخيم أو تهويل أو تنويه أو نحو ذلك " انتهى .
وبنحوه في "التحرير والتنوير" (20/146)
القول الثاني : أن استعمال لفظ " السنة " جاء للدلالة على صعوبة السنوات التي قضاها نوح عليه السلام في دعوة قومه ، فهي سنوات عجاف من حيث الخير والمطر والبركة ، ومن حيث مشقتها أيضا على نوح عليه السلام في أمر الدعوة ، حيث واجهه قومه بالإعراض والأذى ، ثم عاش بعد الطوفان وهلاك الكفر من الأرض أعواما من الخصب والنعيم والرخاء ، والعرب تطلق لفظ " السنة " على أيام الجدب والقحط ، و لفظ " العام " على أيام الرخاء والنعيم .
يقول الراغب الأصفهاني في "مفردات ألفاظ القرآن" (2/140) :
" العام كالسنة ، لكن كثيرا ما تستعمل السنة في الحول الذي يكون فيه الشدة أو الجدب ؛ ولهذا يعبر عن الجدب بالسنة ، والعام بما فيه الرخاء والخصب ، قال : ( عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون ) يوسف/49 ، وقوله : ( فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ) العنكبوت/14 ، ففي كون المستثنى منه بالسنة والمستثنى بالعام لطيفة .
وقال برهان الدين البقاعي "نظم الدرر" (14/404) :
" وعبر بفلظ " سنة " ذما لأيام الكفر ... وقال : " عاما " إشارة إلى أن زمان حياته عليه الصلاة والسلام بعد إغراقهم كان رغدا واسعا حسنا بإيمان المؤمنين ، وخصب الأرض " انتهى .
ونحوه توجيه الإمام الزركشي في "البرهان في علوم القرآن" (3/386)
وجمع بعض أهل العلم بين هذين القولين ، إذ لا مانع من اعتبار الحكمتين من هذه المغايرة : اللفظية والمعنوية ، وأقوال المفسرين - إن لم تتعارض - فالأخذ بها جميعها أولى من اطراح بعضها :
يقول ابن عادل في "اللباب" (12/429) :
" وقد روعيت هنا نكتة لطيفة ، وهو أن غَايَرَ بين تَمْيِيزي العَدَد فقال في الأول " سنة " وفي الثاني " عاماً " ، لئلا يثقل اللفظ ، ثم إنه خص لفظ العام بالخمسين إيذاناً بأن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما استراح منهم بقي في زمن حسن ، فالعرب تعبر عن الخَصْب بالعام ، وعن الجَدْب بالسنة
والله أعلم .