السؤال :
يوجد حديث عن الرسول صلى الله عليه سلم فيما معناه : ( إن القبر أول منازل
الآخرة وإن نجا منه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه ) .
أيضاً : ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن من مكفرات الذنوب : عذاب
القبر .
فسؤالي كيف يمكن التوفيق بين كلام شيخ الإسلام والحديث السابق ؟ فالحديث
السابق - بحسب فهمي المتواضع - يُخبر أن من يعذب في قبره : فالعذاب الذي
بعده أشد منه في المحشر ودخول النار - أعاذنا الله وإياكم منها - ، أما
الشيخ : فيذكر أن عذاب القبر قد يكون تكفيراً لسيئات العبد ، ومن هذا
المنطلق قد ينقطع عنه عذاب القبر ولا يستمر ، وكذلك قد ينجو في المحشر ومن
عذاب النار.
أرجو أن أكون أوضحت التساؤل بشكل تام .
الجواب :
الحمد لله
أولا :
الحديث المشار إليه هو ما رواه عُثْمَان بْن عَفَّانَ رضي الله عنه ، أنَّ
رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ الْقَبْرَ
أَوَّلُ
مَنَازِلِ الْآخِرَةِ فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ
وَإِنْ
لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ ) .
رواه الترمذي ( 2308 ) وابن ماجه ( 4267 ) ، وحسَّنه : الحافظ ابن حجر في "
الفتوحات الربانية " ( 4 / 192 ) ، والضياء المقدسي في " الأحاديث المختارة
" ( 1 /
523 ) وصححه الشيخ أحمد شاكر في تحقيقه " مسند الإمام أحمد " ( 1 / 225 ) ،
وصححه
المحققون للمسند – طبعة الرسالة – ( 1 / 503 ) ، وحسَّنه الألباني في "
صحيح
الترمذي " .
قال
أبو الحسن عبيد الله المباركفوري – رحمه الله - :
(
إن القبر أول منزل ) أي : فهو أقرب شيء إلى الإنسان ، وأيضاً شدته أمارة
للشدائد
كلها . ( من منازل الآخرة ) ومنها : عرصة القيامة عند العرض ، ومنها :
الوقوف عند
الميزان ، ومنها : المرور على الصراط ، ومنها : الجنة أو النار .
(
فإن نجا منه ) أي : من عذاب القبر .
(
فما بعده ) أي : من المنازل .
(
أيسر منه ) أي : أسهل وأهون ؛ لأنه يُفسح للناجي من عذاب القبر في قبره مدّ
بصره ،
وينوَّر له ، ويُفرش له من بسط الجنة ، ويُلبس من حللها ، ويُفتح له باب
إلى الجنة
فيأتيه من روحها وطيبها ، وكل هذه الأمور مقدمة لتيسير بقية منازل الآخرة .
(
وإن لم ينج منه ) أي : لم يخلص من عذاب القبر ، ولم يكفر ذنوبه ، وبقي عليه
شيء مما
يستحق العذاب به .
(
فما بعده أشد منه ) ؛ لأن النار أشد العذاب ، فما يحصل للميت في القبر :
عنوان ما
سيصير إليه .
"
مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح " ( 1 / 229 ) .
وأما كلام شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – المشار إليه في السؤال فهو
قوله :
قد
دلَّت نصوص الكتاب والسنَّة : على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة
أسباب :
أحدها : التوبة ، وهذا متفق عليه بين المسلمين ... .
السبب الثامن : ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والرَّوعة ، فإن هذا
مما يكفر
به الخطايا .
"
مجموع الفتاوى " ( 7 / 487 – 501 ) ، وينظر أيضا : "مجموع الفتاوى" (10/45)
.
ثانيا :
إذا
كان الإشكال عند السائل هو فيمن لم ينج من عذاب القبر ، من عصاة الموحدين ؛
وكيف أن
عذاب القبر سوف يكون تكفيرا لسيئاته ، مع أن ما بعد القبر وعذابه أشد منه ،
كما في
الحديث ، فيقال في الجواب عن ذلك :
1-أنه
لا يلزم من كون عذاب القبر من أسباب المغفرة : أن تكون المغفرة عامة للذنوب
جميعها
، بل قد يكون سببا لمغفرة بعض ذنوبه ، ثم يبقى يعذب ببعضها الآخر ، وعذابه
في جهنم
لا شك أنه أشد مما مر عليه في قبره ، خاصة إذا كان عذاب القبر قد استمر مدة
، ثم
انقطع ، ولم يبق متواصلا معه إلى البعث . ولذلك يقول العبد الفاجر ، أو
المنافق ،
وهو من أهل التشديد عليه في القبر وعذابه ، يقول حين يرى مقعده من النار : (
ربِّ
لا تُقِمِ الساعة ) رواه أحمد (18063) وصححه الألباني .
2-ولعل
مما يقوي ذلك أن عذاب القبر قد ورد في ذنوب معينة ، فيكون تكفيره لهذه
الذنوب التي
عذب بسببها ، كما لو أقيم عليه الحد في الدنيا .
3-
هذا الذي مر في الوجهين السابقين إنما يقال على تقدير ثبوت النص الشرعي بأن
عذاب
القبر هو كفارة لصاحبه ، فيجمع بين النصوص الواردة في ذلك ؛ أو على تقدير
أن أهل
العلم يقررون ذلك ، فيوضح به مرادهم ؛ وإلا فنص شيخ الإسلام ابن تيمية
المذكور
أعلاه ، ومثله نصوصه التي وقفنا عليها في أكثر من أربعة مواضع من كتبه ، لم
نر في
موضع واحد منها تصريحه بـ ( عذاب القبر ) وأنه من أسباب المغفرة ؛ بل الذي
تم
الوقوف عليه هو ما ورد في النص المنقول ، ومثله قوله في موضع آخر : " ما
يبتلى به
المؤمن في قبره من الضغطة وفتنة الملكين .. " " منهاج السنة" (6/146) . وهو
ما
يقرره ـ أيضا ـ تلميذه الإمام ابن القيم ، حيث يقول ـ في سياقه لنفس
الأسباب العشرة
لتكفير الذنوب ـ : " ... وبالامتحان في البرزخ ، وفي موقف القيامة.. "
انتهى .
"إعلام الموقعين" (2/304) . ولا شك أن فتنة القبر ، وضمته ، والامتحان فيه :
هي أعم
من العذاب الخاص بالقبر ؛ فالمحنة ، وهول القبر وروعته ، وضمته : هذه عامة
لكل أحد
، والعذاب بمعناه الخاص الذي هو عقوبة على ذنوب معينة : ليس عاما لكل أحد ،
كما هو
ظاهر معلوم .
وكما أننا لا نستطيع أن نفهم ، أو على الأقل : لا نستطيع أن نجزم ، بأن
مراد شيخ
الإسلام هو الحديث عن العذاب الخاص ، لأن ظاهر كلامه ، وكلام تلميذه ، إنما
هو على
أهوال القبور وفتنتها ، فكذلك لم نقف على نص خاص يصرح بأن عذاب القبر هو
تكفير
لسيئات من يصيبه.
وحينئذ : فلا إشكال ولا تعارض بين النصوص ، ثم إن الحديث المشار إليه في
السؤال لا
يشكل على كلام شيخ الإسلام وتقريره ؛ فلا شك أن من نجا من فتنة القبر ،
وأفلح في
جواب الملكين : قد عجل الله له البشرى في قبره بالتثبيت ، ووعده الحديث
المذكور بأن
يكون ما بعده أهون له ، وأسهل عليه .
والله أعلم .