السؤال :
أفهم ، وأدرك ، أن المسلم يمكن أن يُعذَّب في القبر ، لكن الذي أريد أن
أعرفه هو التالي : نعلم أن الإنسان المسلم سوف توزن أعماله يوم القيامة ،
فإن رجحت الحسنات على السيئات : فإن الله عز وجل سيغفر لهذا المسلم ، أو
المسلمة ، ويدخله الجنة ، سؤالي هو : عندما يكون نفس هذا الإنسان المسلم في
القبر , فهل سيعذَّب في قبره على الرغم من أن الله عز وجل سيغفر له يوم
القيامة ؟ وهل سنُعذب في الآخرة على الرغم من أننا سندخل الجنة ؟ .
الجواب :
الحمد لله
أولاً :
ثبت
عذاب القبر ونعيمه عند أهل السنَّة والجماعة ، كما جاء ذلك دلت في الآيات
القرآنية
، والأحاديث النبوية ، وعليه أجمع سلف الأمة .
أن الأصل في عذاب القبر ونعيمه أنه على الروح ، وقد تتصل
الروح بالبدن فيصيبه شيء من العذاب أو النعيم .
بيان أن عذاب القبر منه ما يستمر إلى قيام الساعة ، ومنه ما ينقطع .
ثانياً :
ينبغي أن يُعْلم أن كثرة الحسنات على السيئات ليست بمنجية صاحبَها من عذاب
القبر
بذاتها ؛ لأن الوعيد المترتب على العذاب في البرزخ ، ليس هو الوعيد المترتب
على
العذاب في نار جهنم ، وقد يأتي المسلم بسبب واحد من أسباب العذاب في قبره ،
فيعذَّب
عليها ، وله أمثال الجبال من الحسنات .
والميزان الذي توزن به أعمال الناس فيشقى بعده طوائف خفت موازينهم ، ويسعد
آخرون
ثقلت موزاينهم : إنما يكون في آخر المطاف ، بعد أن يقطع الناس أشواطاً في
مراحل
الدار الآخرة .
قال
أبو عبد الله القرطبي – رحمه الله - :
والذي تدل عليه الآي ، والأخبار : أن من ثقل ميزانه : فقد نجا وسلِم ،
وبالجنة أيقن
، وعلِم أنه لا يدخل النار بعد ذلك ، والله أعلم .
"
التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة " ( ص 272 ) .
والمسلم الذي نفترض كثرة حسناته لو وضعت في الميزان بعد موته مباشرة : لا
ينجو من
عذاب القبر، إن شاء الله تعذيبه على بعض سيئاته تلك ، وليتأمل الأخ السائل
المسائل
التالية فهي تحل الإشكال الوارد في ذهنه :
1.
من كثرت حسناته على سيئاته وأجاب الملَكين في القبر عن أسئلتهم : لا يعني
بالضرورة
أنه ينجو من عذاب القبر إذا جاء بما يستحق عليه العذاب من سيئاته تلك ،
وشاء الله
أن يعذبه عليها في قبره .
2.
من كثرت حسناته على سيئاته ليس بالضرورة إذا رأى مقعده من الجنة في قبره ،
أنه لن
يعذَّب على ما شاء الله من ذنوبه ، وللعلماء في هذا قولان :
الأول : أن من ارتكب سيئات وشاء الله تعذيبه في القبر ، وهو في الآخرة من
أهل الجنة
: أنه يرى مقعده من الجنة باعتبار مآله .
والثاني : أنه يرى مقعده من النار باعتبار حاله .
وعليه :
فإن زيادة حسنات العبد على سيئاته ، ليس بمانع من أن يعذب في قبره على بعض
ذنوبه
التي ورد الوعيد لفاعلها بالعذاب في قبره .
مثل
عقوبة المرابي وأنه يسبح في نهر دم ، وعقوبة الزناة والزانيات ، والعقوبة
على
النميمة ، والغلول من الغنائم ، والكذب ، وعدم الاستبراء من البول ، وغير
ذلك مما
جاءت النصوص واضحة في التنصيص على معاصٍ بعينها .
ثالثاً :
ومن حكمة الله تعالى أنه لم يجعل الميزان أول موت العبد ؛ ويبدو لنا بعض
الحكَم من
ذلك نرجو أن تكون موافقة للصواب :
1. أنه يُخفف حِمل السيئات على العاصي بما يصيبه من عذاب القبر ؛ تخفيفاً
عنه من
عذاب جهنم ، ولا شك أن ما يصيب العاصي من عذاب القبر أهون عليه مما يصيبه
من نار
جهنم .
قال
شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - :
ما
يحصل للمؤمن في الدنيا والبرزخ والقيامة من الآلام التي هي عذاب : فإن ذلك
يُكفِّر
الله به خطاياه ، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
: ( ما
يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا حزَن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر
الله به
من خطاياه ) .
"
مجموع الفتاوى " ( 24 / 375 ) .
قال
رحمه الله :
السبب الثامن : ما يحصل في القبر ، من الفتنة ، والضغطة ، والروعة ، فإن
هذا مما
يكفّر به الخطايا . " مجموع الفتاوى " ( 7 / 500 ) .
2.
أنه ليس كل مَن جاء بحسنات تبقى معه حتى يدخل بها الجنة ، ولا من جاء
بسيئات تبقى
معه حتى يدخل بسببها النار ، فثمة ما يُسمَّى " المقاصة " ، وهو أخذ أصحاب
الحقوق
من حسنات من ظلمهم ، أو إلقاء سيئاتهم عليه ، كما في حديث " المفلس " الذي
رواه
الإمام مسلم في صحيحه ، وهذا إنما يكون قبل الميزان .
قال
أبو عبد الله القرطبي – رحمه الله - :
و
أما المخلِّطون : فحسناتهم توضع في الكفة النيرة ، وسيئاتهم في الكفة
المظلمة ،
فيكون لكبائرهم ثقل ؛ فإن كانت الحسنات أثقل ، ولو بصؤابة – وهي بيضة
القَمْل - :
دخل الجنة ، وإن كانت السيئات أثقل ، ولو بصؤابة : دخل النار ، إلا أن يغفر
الله ،
وإن تساويا : كان من أصحاب الأعراف ، هذا إن كانت الكبائر فيما بينه وبين
الله ،
وأما إن كانت عليه تبعات ، وكانت له حسنات كثيرة : فإنه ينقص من ثواب
حسناته بقدر
جزاء السيئات ؛ لكثرة ما عليه من التبعات ، فيحمل عليه مِن أوزار مَن ظلمه ،
ثم
يعذب على الجميع ، هذا ما تقتضيه الأخبار .
"
التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة " ( ص 269 ، 270 ) .
3.
أنه لم تنقطع الحسنات ، ولا السيئات بالموت ، بل ثمة " حسنات جارية " ، و "
سيئات
جارية " ، فالأول : كمن تصدَّق بصدقة جارية ، أو علَّم علماً نافعاً ، أو
دلَّ غيره
على عمل صالحٍ ، أو كان له ذرية يعملون بعد موته بطاعات ، وكل ذلك مما يجعل
للميت
مجالاً لزيادة الحسنات ، وأما الثاني : فهو لمن دلَّ غيره على عمل فاسد ،
أو ابتدع
بدعة ، وغير ذلك مما تجري سيئات أعمالهم على فاعلها ، وعلى الميت ، الذي
كان سبباً
في فعل تلك السيئات والبدع .
وبه
يُعلم أنه ليس بالموت يقف " عدَّاد " الحسنات ، والسيئات ، ولذا نرى عظيم
الحكمة في
عدم اعتبار الميزان أول موت المسلم ، بل لا يكون ذلك إلا في آخر المطاف ،
وبعدها
يكون دخول الجنة ، أو النار ، وعندها يمكن للمسلم أن يفهم معنى قوله تعالى (
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ
هُمُ
الْمُفْلِحُونَ ) الأعراف/ 8 ، وقوله (
فَأَمَّا
مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ .
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ) القارعة/ 6 ، 7 .
والله أعلم