السؤال :
يقول الله تعالى : ( وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ) قرأت في
ترجمة للقرآن الكريم موثوق بها أن هذه الآية خاصة بزوجات النبي صلى الله
عليه وسلم ، فهل هذا صحيح ، وهل تدخل نساء الأمة في هذه الآية ؟
الجواب :
الحمد لله
أولاً :
سبق في الموقع ذكر الأدلة الدالة على وجوب الحجاب على المرأة المسلمة ،
ثانياً :
اختلف أهل العلم رحمهم الله في قوله تعالى : ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ
مَتَاعاً
فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ
وَقُلُوبِهِنَّ ) الأحزاب : 53 ، هل هي شاملة لأزواج النبي صلى الله عليه
وسلم ،
وغيرهن من النساء ، أو هي خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، على
قولين :
القول الأول : أن الآية خاصة بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، فالحجاب
الكامل
واجب عليهن دون غيرهن من النساء .
قال ابن عاشور رحمه الله في "التحرير والتنوير" : "
وهذه الآية هي شارعة حكم حجاب أمهات المؤمنين " انتهى .
وقال أيضاً : " وبهذه الآية مع الآية التي تقدمتها من قوله : ( يا نساء
النبي لستن
كأحد من النساء ) الأحزاب : 32 ، تحقق معنى الحجاب لأمهات المؤمنين ،
المركبُ من
ملازمتهن بيوتهن ، وعدمِ ظهور شيء من ذواتهن حتى الوجه والكفين ، وهو حجاب
خاص بهن
لا يجب على غيرهن ، وكان المسلمون يقتدون بأمهات المؤمنين ورعاً ، وهم
متفاوتون في
ذلك على حسب العادات " انتهى من "التحرير والتنوير" .
القول الثاني : أن الآية عامة ، فتشمل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ،
وغيرهن من
النساء.
قال ابن جرير الطبري رحمه الله في "تفسيره" (20/
313) : " يقول : وإذا سألتم أزواج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،
ونساء المؤمنين اللواتي لسن لكم بأزواج ، متاعًا : فاسألوهن من وراء حجاب "
انتهى .
وقال القرطبي رحمه الله في "تفسيره" (14/
227) : " في هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن في مسألتهن من وراء حجاب
، في
حاجة تعرض ، أو مسألة يستفتين فيها ، ويدخل في ذلك جميع النساء بالمعنى ،
وبما
تضمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة " انتهى .
وقال القرطبي رحمه الله أيضا ، في تفسير قوله تعالى : ( وَقَرْنَ فِي
بُيُوتِكُنَّ
وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى ) الأحزاب/33 : "
معنى هذه
الآية الأمر بلزوم البيت ، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم ،
فقد
دخل غيرهن فيه بالمعنى ؛ هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء ، كيف
والشريعة طافحة
بلزوم النساء بيوتهن ، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة ، على ما تقدم
في غير
موضع ." انتهى . من " تفسير القرطبي" (14/179) .
وقال الجصاص رحمه الله في "أحكام القرآن" (5/242) : " هذا الحكم وإن نزل
خاصا في
النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه ، فالمعنى عام فيه وفي غيره ، إذ كنا
مأمورين
باتباعه والاقتداء به ، إلا ما خصه الله به دون أمته " انتهى .
والراجح القول الثاني ، وأن الآية عامة في حق نساء النبي صلى الله عليه
وسلم ، وفي
حق نساء الأمة ، والأدلة على رجحان عموم الآية عدة أمور :
1. أن الأصل في خطاب الشرع العموم ، إلا إذا دل الدليل على تخصيص ذلك
الخطاب .
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله "أضواء البيان" (6/
247) : " ومن الأدلة على أن حكم آية الحجاب عام : هو ما تقرر في الأصول من
أن خطاب
الواحد يعم جميع الأمة ، ولا يختص الحكم بذلك الواحد المخاطب ، وقد أوضحنا
هذه
المسألة في سورة الحج ، في مبحث النهي عن لبس المعصفر ، وقد قلنا ذلك لأن
خطاب
النبي صلى الله عليه وسلم لواحد من أمته يعم حكمه جميع الأمة ؛ لاستوائهم
في أحكام
التكليف ، إلا بدليل خاص ، يجب الرجوع إليه .........
وبهذه القاعدة الأصولية التي ذكرنا ، تعلم أن حكم آية الحجاب عام ، وإن كان
لفظها
خاصًّا بأزواجه صلى الله عليه وسلم ؛ لأن قوله لامرأة واحدة من أزواجه ، أو
من
غيرهن كقوله لمائة امرأة " انتهى اختصاراً .
2. تعليل الأمر بالسؤال من وراء حجاب بقوله : ( ذَلِكُمْ أَطْهَرُ
لِقُلُوبِكُمْ
وَقُلُوبِهِنَّ ) ؛ فالعلة من الأمر كونه " أطهر للقلوب " ، ومعلوم أن
أمهات
المؤمنين أطهر النساء قلوباً ، فغيرهن من النساء أشد حاجة لتحصيل ما يحقق
أطهرية
القلوب .
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله : " قوله تعالى : ( وَإِذَا
سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْألُوهُنَّ مِن وراء حِجَابٍ ذلِكُمْ
أَطْهَرُ
لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ) : قد قدّمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك
أن من
أنواع البيان التي تضمّنها : أن يقول بعض العلماء في الآية قولاً ، وتكون
في نفس
الآية قرينة تدلّ على عدم صحة ذلك القول ، وذكرنا له أمثلة في الترجمة ،
وأمثلة
كثيرة في الكتاب لم تذكر في الترجمة ، ومن أمثلته التي ذكرنا في الترجمة
هذه الآية
الكريمة ، فقد قلنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : ومن أمثلته : قول كثير
من الناس
إن آية " الحجاب " ، أعني : قوله تعالى : ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ
مَتَاعاً
فَاسْئَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ) خاصة بأزواج النبيّ صلى الله عليه
وسلم ، فإن
تعليله تعالى لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال
والنساء من
الريبة في قوله تعالى : ( ذالِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ )
قرينة
واضحة على إرادة تعميم الحكم ، إذ لم يقل أحد من جميع المسلمين إن غير
أزواج
النبيِّ صلى الله عليه وسلم لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن ، وقلوب الرجال من
الريبة
منهنّ ، وقد تقرّر في الأصول : أن العلّة قد تعمّم معلولها " انتهى من
"أضواء
البيان" (6/
242) .
3. روى البخاري (5232) عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّ
رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِيَّاكُمْ
وَالدُّخُولَ
عَلَى النِّسَاءِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ : يَا رَسُولَ
اللَّهِ
أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ ؟ قَالَ : الْحَمْوُ الْمَوْتُ ) .
قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله "أضواء البيان" (6/249) : " فتحذيره صلى الله
عليه
وعلى آله وسلم هذا التحذير البالغ من دخول الرجال على النساء , وتعبيره عن
دخول
القريب على زوجة قريبه باسم الموت ، دليل صحيح نبوي على أن قوله تعالى : (
فسألوهن
من وراء حجاب ) عام في جميع النساء كما ترى ؛ إذ لو كان حكمه خاصًا بأزواجه
صلى
الله عليه وعلى آله وسلم , لما حذر الرجال هذا التحذير البالغ العام من
الدخول على
النساء " انتهى .
والخلاصة :
أن الآية عامة في وجوب الحجاب على زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى
غيرهن من
عموم النساء .
والله اعلم